المصيدة: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي

 

المصيدة: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي 
أ. محمد إبراهيم محمد عمر همد 


    أرخى زياد جسده بين يدي جهاد معرور، والأخير يتحسس طريقه في الظلام بين بقايا الأنفاق المتهدِّمة، والتراب الناعم ينهال عليهما، وظلام النفق ورائحته الرطبة تصيبهما بالقلق والضجر، وما يقلق جهاد أكثر خوفه من إغماء زياد في هذا الوقت العصيب، مما يقلِّل من فرص نجاته، وهي فرص تكاد تكون منعدمة وقد انهارت منظومة الأنفاق في هذا الجزء أسفل حي الأشجعيَّة في وقت مازال فيه زياد ينزف بسخاء. مدَّده جهاد على الأرض، ثم شرع في تمزيق ثيابه للتأكد من موضع الإصابة، وقد وجد أنَّ المقذوف قد اخترق جسد زياد أسفل الكلية اليمنى وخرج من الاتجاه المقابل، وقد سلك المقذوف طريقاً يخشى أن يكون اختراقه ذا ضرر بالغ.     
     بدأ جهاد الضغط على موضع النزيف محاولاً إيقافه، بينما كان زياد موشكاً على الإغماء، وقد حاول جهاد إبقاءه واعياً ما أمكن حتى يتسنى لهما الحصول على نجدة وشيكة، هذا في وقت كان فيه المصباح الكهربائي يرسل وميضاً خافتاً متقطعاً كأنَّما طفل شقيٌّ يعبث بسلكه من الجانب الآخر، وذرات التراب الناعم تنهال عليهما بصورة منتظمة، وأرضية النفق الرطبة تلسع جسديهما، وجدرانه الخرسانية الباردة ترسل شحنات جنائزيَّة سالبة، وكلُّ هذه الأشياء تغري بالإغماء أكثر مما توحي بالوعي واليقظة، لذلك كانت مهمَّة جهاد-إبقاء زياد واعياً- مهَّمة شبه مستحيلة، ومحاطة بالفشل من كل اتجاه، ولكن مع ذلك لم يستسلم، لا شيء يمنعه من المحاولة، لذلك شرع في حكاية حادثة مماثلة حدثت له من قبل، وذلك حتى يتمكَّن من إلهائه وإبقائه يقظاً ريثما تتهيأ لهما نجدة قد تكون في طريقها إليهما الآن.   
     مازالت أتذكَّر ذلك اليوم كأنَّه أراه أمام عينيّ الآن، وفي صباح ذلك اليوم الخريفي في أوائل تشرين الثاني قبل حوالي نصف قرن من الآن، وقد اكتست الأرض بخضرة مريحة للعين امتدَّت على مدِّ البصر، والشمس ترسل أشعتها الذهبيَّة خلسة بين الغيوم الماطرة، فتنعكس على قطرات الماء العالقة بالهواء، فتبدو كحبات العرق المتلألئ على جبين الغادة المغناج، ورائحة العشب والأرض المبتلَّة بالمطر تتسرَّبان برفق وسلاسة إلى الصدور، فتنتعش النفوس ويزيد انشراحها. وقد كنت أتقافز مرحاً مع بني عمومتي وأصدقائي في طريقنا إلى الحقول لمساعدة أقربائنا في قطف الزيتون، ونحن نردِّد مع الأطفال في صوت عذب متناغم
امي راحت تسوق واختي تطبخ في الطابون 
وستي عملتلي عجة قليتها بزيت الزيتون
قالت لي طعمي صحابك لاتنس ادفي حالك
قلتلها شكر كثير ع العجة وزيت الـ......
وإذا بهدير الطائرات من فوقنا يبتر انسياب الأغنية، والأطفال يحملقون في المروحيَّة وهي تلقي عليهم برزم من المنشورات، وقد تبعثرت المنشورات والأطفال يتخطَّفونها بعضهم من أيدي بعضهم الآخر، وقد كان مضمونها تحذيرهم من مقاومة جيش الاحتلال، وقد هرعت إلى حقل أبي، فهالني ما رأيت من مناظر بشعة مازالت مطبوعة على ذاكرتي، وقد ميَّزت بصعوبة جثث أبي وعمي وأخي الأكبر، وقد تناثرت جثثهم مع جثث أخرى بين أشجار الزيتون، وجداول صغيرة من الدماء الحارة تسقي الأشجار بسخاء، لقد عبَّروا عن وفائهم وارتباطهم بهذه الأرض أحياء وأمواتاً. 
      حينها شعرت بدوار عنيف يلهو برأسي بعنف، وبعيني تدوران وترتعشان بشدَّة، وشعور بالغثيان يغمر جسدي بالعرق الغزير، فأقاوم رغبة عارمة في الغثيان، فأفشل في التحكُّم في نفسي وأبخرة ذات رائحة نفَّاذة تتصاعد من بطني إلى فيّ، كأنَّ هنالك من يرفع معدتي من أسفلها ويضعها على مقربة من فيّ، فتخور قواي وأفرغ حمولة معدتي دفعة واحدة ثم أغيب عن الوعي.
     وقد أفقت والشمس تنحدر بسرعة نحو الغروب، وإذا بجارنا أبو درويش الرجل الستيني يجلس على مقربة مني، وهو يرمقني بإشفاق وحنان ظاهرين، فبادله نظرة امتنان وشكر خالص، وقد استنتجت أنَّه هو من اعتنى بي خلال غيبوبتي، بل هو من حملني من الحقل ووصل به إلى هنا، وقد عجب من قدرة هذا الرجل وعزمه إذ استطاع أن يحملني في ذلك النهار  الكارثي الذي لم يهدأ فيه صوت الرصاص، وهو يحصد الأرواح كلّ الأرواح حصاد الزيتون الباشلي. وقد أخبرني  أبو درويش بالطريقة التي عثر بها عليَّ، وكيفيَّة وصوله إلى الحقل، وانحدرت دموع القهر والعجز من عيني أبي درويش، وبدا واضح التأثر وهو يخبرني بأنَّه قد أخرج من بيته كالآخرين استجابة للنداء عبر مكبِّرات الصوت، وقد اصطف هو وجيرانه في منتصف الطريق، وثلاثة من الجنود يصوبون بنادقهم الرشاشة عليهم، وطلبوا منهم أن يستديروا ويضعون أيديهم أعلى رؤوسهم فاعترض أبو معلول على ذلك، وإذا بالطلقات تجعل من جسده غربالاً ضخماً واسع الثقوب، ونوافير من الدماء الحارة ترش الوجوه في لوم واضح، وقد شعرنا بالخزي والعار لاستسلامنا، فبدونا كشياه وديعة أسلمت أنفسها لقصاب قاسي القلب يشحذ سكينه أمام أعينها، والتفتنا جميعاً وكأنَّ الفكرة طافت بعقولنا معاً، وانطلقنا نحوهم والرصاص ينهمر علينا فسقط منا  أربعة، وجرح آخران قبل أن نتمكَّن منهم، وقد هرب أحد الجنود، وأمسكنا بالجنديين الآخرين، وقد ألقيت بنفسي على أحدهما، وبدأت أهرس رأسه بحجر ضخم ولم أكفُّ عن ضربه حتى شعرت بالإعياء، وشعور لذيذ بالخدر يتسلَّل إلى عيني، وبهواء بارد رطب يتهادى في أحشائي، فجعلني ذلك  أتفحص جسدي لأجد رصاصة اخترقته على مقربة من الكلية اليمنى، والدماء تغطي ثيابي، فتركت رأس الجندي كتلة غير متجانسة من اللحم المفروم على عجل، لا أدري كيف كنا سنستسلم لهذا الكائن البائس الضعيف؟ وهرع إلىَّ غانم خليل  وربطها لي بكوفيتي، وقد ربط كوفيته على قدمه، وصار كل منَّا في طريق بعد الوداع القصير، وكلنا يعلم أنَّه الوداع الأخير، وكان بإمكاننا أن نموت معاً ولكن تعلمنا من درس أبي معلول أن نقاوم ولا نستسلم مها كان الوضع حرجاً، وبما أننا جريحان فعلينا أن لا نسهِّل لهم مهمَّة قتلنا معاً، عليهم أن يعانوا قليلاً في البحث عنَّا.  
       ولم يكد يصل إلى هذا الجزء من روايته حتى بدأت أنفاسه تتسارع، وصدره يعلو ويهبط بسرعة، فيغالبه التأثر ويتهدَّج صوته، وسعال حاد يشقُّ طريقه بصعوبة في صدره ذي الفقرات البارزة، فيضع رأسه على الترب، فوسَّدته فخذي، وبرودة جسده تكهرب جسمي، ووضعت يدي على صدره، وهو ينظر إلى عينيّ مباشرة، وعيناه تفصحان عمَّا عجز عن نطقه، وهي تحمل رسالة واحدة وواضحة: (لا تستسلم).
       وضعت جثَّته خلف الشجرة، وهممت بأن أحفر له قبراً، ولم أدرِ كيف أفعل ذلك والليل قد حلَّ وأصوات الطلقات تتناهى إلى مسمعي من بعيد، بعدها له صوت صفير حاد، وبعضها له دويٌّ مكتوم. فتركته بعد تردُّد، وقد استشهد هو بينما عليَّ أن أواصل المسير، وتمنيت لو أنَّني مكانه، لا أدري ماذا أفعل بحياة لا اجتمع فيها بأبي وأخي وأصدقائي، ولكن وصيَّة أبي درويش تستحق التنفيذ، خاصَّة وهو من أنقذ حياتي واعتنى بي.
     وهنا بدأ زياد يسعل سعالاً حادَّاً، والقصة قد وصلت إلى خواتيمها، ولا أصوت نجدة تسمع في النفق، ومازالت الأتربة الناعمة تنهال عليهما في حماس، وبدأت أنفاس زياد تتسارع، وهذا ما كان جهاد يخشاه، فلو لم يكن زياد مصاباً في أحشائه لعدَّ هذا التسارع في الأنفاس بسبب سوء تهوية النفق لانهيار فتحته من الخارج، بينما غمرت المياه بعض جوانبه، أمَّا وقد كان زياد مصاباً فإن هذا التسارع في الأنفاس لا يبشِّر بخير البتة، وعلى بصيص من الضوء الخافت أبصر جهاد بريق انتصار ورضا في عيني زياد، وهو يحاول أن يفتح فاه ليقول شيئاً ما، ولم يتحمَّس جهاد لهذه المحاولة؛ لأنَّه يعلم تماماً أنَّ أيَّ مجهود يبذله زياد سيعجِّل برحيله، حتى ولو كان هذا الجهد مجرَّد حديث، كما يعلم أيضاً أنَّه لا أحد يمنع زياد عن فعل شيء إن أراد فعله، وهاهو يبصر في عينيه حماس وإصرارٍ واضحين، لذلك كفَّ عن محاولة منعه من الكلام، فاسترسل زياد في حكايته، وهو يذكِّر جهاد معرور بيوم تنفيذ الإعدام على إياد أخيه، فيجفل جهاد لسماع هذا، ويتغيَّر وجهه، ولو كانت الإضاءة كافية وزياد مهتماً بالنظر في وجه جهاد لأبصر وجهه ممتقعاً متغيِّر السحنة، لأنَّه لا يرغب في سماع قصة شهد أحداثها المؤلمة بنفسه، لكم كان يتمنى أن يعتذر زياد عن عمله في تنفيذ حكم الإعدام على أخيه، وعلى الرغم من أنَّ هذه الخطوة نالت رضى بعضهم إلا أنَّها صوحبت باستهجان كثير من العالمين بالأمر، فلو اعتذر حينذاك لوجدوا له العذر، ولما عدَّ ذلك ضعفاً منه، ولكن لا أحد يستطيع إثناء هذه الكتلة الصلبة من المبادئ عن طريقها القويم، كما لا يستطيع جهاد منعه الآن من الاسترسال في تلك القصة بدء من الليلة التي سبقت الإعدام. 
        حاولت أن أزوره في تلك الليلة، ولكنني تردَّدت في آخر لحظة، وعدلت عن قراري على بُعْد خطوات من زنزانته، وقد خشيت أن أضعف فأتعاطف معه، أو أن أتهوَّر فأقضي عليه بيديّ، لم أشعر بضيق وحنق في حياتي من قبل كذاك الحنق والضيق اللذان أحسست بهما في تلك الليلة، ومازال الإحساس بالذنب ينقِّص حياتي حتى الآن، وذلك ممَّا حدث في ذلك النهار، لحظة إطلاق النار عليه، وبينما أصوّب بندقيتي على موضع قلبه تماماً، وأنا أمرر نظري عبر الفريضة، أبصرت حينذاك فؤاد إياد ينبض بعنف على الرغم من أنَّ المساحة كانت لا تسمح لي برؤية ذلك بوضوح، كما لاحظت أيضاً شيئاً ما يتكوَّر في موضع القلب، ويبدو بروزه واضحاً دون تدقيق، كأنَّما قلبه في طريقه إلى الخروج من صدره، حتى حسبت أنَّني أتوهَّم ذلك ولا أراه حقاً ولكن ما رأيته بعد ذلك فاق أعقد خيالاتي، وقد بدأ التكوُّر ينقشع عن قلب دامٍ أشبه بزهرة أرجوانيَّة متهرئة متهدِّلة الجوانب ذات حوافٍ وعمق بنيّ اللون، ثم تدلَّى القلب قليلاً إلى الأسفل وخيوط بيضاء دقيقة تتصل به ويتأرجح عليها كلعبة(يويو)في يد طفل يمتلك تلك اللعبة لأوَّل مرة، وحينها قلت لنفسي لو أنَّ هذه الخيوط هي التي تمنعه من السقوط على الأرض- لا أظنَّها ستصمد طويلاً قبل أن تتخلى عنه وعن شيء منها، ولكن بدأت تلك الخيوط تزداد سمكاً يتناسب طرديَّا مع ذلك النمو السريع الذي طرأ عليه، وقد نما بسرعة من أطرافه والدماء اللزجة تتقاطر من حوافه، فهالني ما رأيت فأغلقت عينيّ، وارتخت يداي، وانتبهت لأفتح عينيّ على تحوُّل ذلك القلب إلى كائن بحجم إنسان معتدل القامة، وكان أقرب منه إلى المسخ من الإنسان، بل هو كائن من اللحم المتهرئ ذات ملامح بشريَّة لو أردنا الدقَّة، ودقَّقت في تفحص ملامح ذلك الكائن، وفي أعماقي دفء غريب يشي بعلاقة ما أو بمعرفة سابقة لي بهذا الكائن.
       لم يستمر جهاد معرور في الإنصات للقصة، لأنَّه كان مشغولاً بما هو أهمّ، وقد ألصق أذنه بأرضية النفق وهو يتحقَّق من دبيب أقدام في موضع ما من شبكة الأنفاق، ثوانٍ معدودات وتأكَّد من أنَّ وقع الأقدام مقبل نحوهما، وهنا لم يتمالك نفسه من الفرح، وإذا به يرفع رأسه بسرعة من وقع الانفعال، فيصطدم بسقف النفق المتهالك، فتنهال ذراته الناعمة عليهما مجدَّداً، وقد وجد التراب الناعم سبيله إلى جرح وفم زياد، فأحسَّ ببرودته على موضع الجرح، وسعل سعلاً حاداً لإحساسه بالاختناق، ولكن ذلك لم يثنه عن الاستمرار في سرد قصّته حتى النهاية.
       ليكمل: ثم تملَّكني إحساس بأنني أعرف هذا الشخص، لا أدري أين رأيته من قبل، ولكن ما أعرفه حقَّا لو أنَّ هذه الملامح أوضح قليلاً عمَّا هي عليه الآن، أو أنَّ المسافة أقرب من هذه – لتعرَّفت عليه بكلِّ سهولة، ولم يكد هذا الكائن يفتح فاه بكلمة حتى تيقَّنت من أنَّني كنت محقَّاً في كلِّ ما أحسست به تجاهه، وبدت غشاوة الجهل به تنقشع عن عينيّ، ونور المعرفة به يتجلَّى في بصيرتي، وصوته العميق الدافئ يتردد في ردهات قلبي، لأوَّل مرة في حياتي أستخدم للسمع حاسة أخرى غير الأذن، لقد كنت أسمع صوته بل صوتها بوضوح لو تحرَّينا الدقَّة، لقد كنت أسمع صوت أمي أم جمال بقلبي لا بأذنيّ، وهي تتوسَّل إليَّ بأن لا أطلق النار عليه، فهو ميِّت لا محالة، وقد نال عقابه، إن كان لا بدّ من قتله فليكن على يد شخص آخر، وحينها حاولت أن أعترض وأشرح وجهة نظري في الأمر، لم أتسامح يوماً قط مع خائن، فلا يمكنني خرق هذا المبدأ الآن، وخاصَّة عندما يكون هذا الخائن أخي وشقيقي، فأنا أولى بغسل عاره من غيري.
      وهنا تهجَّد صوته وتسارعت أنفاسه، لا يدري جهاد إن كان هذا التهجد في الصوت والتسارع في الأنفاس بسبب الإصابة في البطن والوجود في هذا النفق السيء التهوية، أم كان بسبب الانفعال الذي طغى على جسد زياد بسبب هذه القصَّة المؤثِّرة، ولكن ما يعلمه حقَّا أنَّ حالته تتدهور كأنَّما موته في سباق محموم مع النجدة التي يسمع وقع أقدامها تقترب، يخشى جهاد أن تصل هذه النجدة متأخرة قليلاً عن الوقت الافتراضي للحاجة إلى وصولها.
       ولم تكن النجدة ولا اقترابها أمر يهمُّ زياد كاهتمامه بالمتابعة في سرد القصة، ليتابع: هذا ما أؤمن به وما كنت أريد أن أوضحه لأم جمال، ولكن انعقد لساني، وفي أعماقي تبلور إحساس بالتعاطف معه، وذلك لأوَّل مرة في حياتي ، وتمنيت لوَّ أنَّ هذا حدث مع شخص آخر، يبدو أنَّ إيماني بالمبادئ لم يُختبَر من قبل، وهاأنذا أفشل في أوَّل امتحان حقيقيٍّ، هنا وجدت نفسي مشتَّت الذهن مضطرب الفؤاد، لا أدري ماذا أصنع، فأغمضت عينيّ والدوار يعبث برأسي، فيبادله سائر جسدي الشعور نفسه، وبأصبع خائر ضغطت على الزناد، وأنا أمنِّي نفسي أن تطيش رصاصاتي، ولكن يبدو أنَّ الخبرة قد حسمت الأمر ضد أمنياتي، لوهلة بدا زياد شامخاً غير عابئ بالرصاص المنهمر عليه، وقد صار شبح أم جمال يتلقَّى تلك الرصاصات بدلاً منه، يبدو أنَّ بعضها قد وجد طريقه إلى قلب زياد، وكل رصاصة اخترقت قلبه كنت أشعر بوقعها على قلبي أولاً قبل أن تخترق قلبه، وإذا بشبح أم جمال يتلوَّى كملاءة حمراء، تتلاعب الريح بأطرافها، ثم أسمع لها فرقعة حادة، ليتحوَّل بعدها لونها إلى لون فضي يخلب الأنظار، ثم تطير هذا الملاءة لتسقط على وجهي، فأحسست برائحة أم جمال التي لم تفارق أنفي قط، وبراحتها الناعمة الحنونة تمسح على عيني، فتخمد نيرانهما، فأسلمت نفسي لها وهي تغطي جسدي كله، وتنحدر بي على سطح جدول صافي المياه، تنساب مياه الباردة بنعومة وسلاسة، وأمامي بساط يتمايل على سطح الجدول وعليه راكب يلوُّح لي بيده، وابتسامته المشرقة تدعوني للانجذاب إليه وأنا أحاول اللحاق به.
      ارتفع منسوب المياه في النفق، وجهاد يجاهد في المضي قدماً وهو يحمل رفيقه، والتراب ينهال عليهما بسرعة هائلة، وقد أظلم النفق وأطفئ نوره على نحو مفاجئ، وأطفئت معه آخرة جذوة أمل كان جهاد حريصاً على بقائها متقدة، فبدأت قواه تخور، وقد صار جسد زياد أثقل قليلاً عمَّا كان عليه من قبل، وكما صارت أطرافه تتصلَّب بسرعة، وتحت ثقل جسد زياد وبرودته اللاسعة بدأ قدمي جهاد تتخبطان حتى تعثر على بروز ناتئ في النفق لم يره جهاد في الظلام، فاصطدم به، وقد أطاح بجسد زياد بعيداً عنه بينما سقط هو على مقربة من البروز ورأسه ينزف بشدة، وصداع رهيب كبرق يرسم تعرجاته على رأسه، حاول أن يقاوم الدوار قليلاً، ثم استسلم له، والمياه تحمل جسده إلى سقف النفق لتلتقي يده بيد صديقه زياد، ثم يتهادى جسداهما على سطح الماء كأنَّهما يمارسان رياضتهما المفضَّلة (السباحة).  
      


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(1) (نظريَّة الأستاذ إبراهيم مصطفى)