سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3) (نظريَّة تضافر القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)
سلسلة النظريَّات
البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3)
(نظريَّة تضافر
القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)
أ. محمَّدإبراهيم
محمَّدعمر همَّد محمود
دواعي نشأة النظريَّة:
رأى تمَّام حسَّان أنَّ النحاة قد قصروا اهتمامهم
على العامل النحويِّ وحده على الرغم من وجود قرائن أخرى تُعين على تحليل الجملة، وعدَّ
العامل النحويَّ وكلَّ ((ما أُثِيْرَ حوله من ضجَّة لم يكن أكثر من مبالغة أدَّى إليها
النظر السطحيُّ والخضوع لتقليد السلف والأخذ بأقوالهم على علاتها)).(1) وبذلك يقلِّل
تمَّام حسَّان من شأن العامل النحويَّ، ويتَّهتم النحاة بالمبالغة في أمره، كما يرى أيضاً أنَّ تحليل الجملة على أساس
العامل النحويِّ تحليلاً قاصراً لأمرين: أحدهما: قلَّة المعُريات التي تظهر على آخِرها
التغيُّرات الإعرابيَّة، مقارنة بالمبينات وذوات الإعراب التقديريِّ فضلاً عن الإعراب
بالحذف والإعراب على المحلِّ بالنسبة للجمل. والآخَر: بافتراض أنَّ كل الإعرابات تمَّت
على أساس الحركة الظاهرة فإنَّ ذلك سيكون مدعاة للبس، الذى ينشأ عن دلالة الحركة الواحدة
على أكثر من باب نحويٍّ.(2)
وقد رأى تمَّام حسَّان أنَّ النحاة قد بنوا نحوهم
على الحركة الإعرابيَّة، وهو عمل يتَّسم بكثير من المبالغة وعدم التمحيص، وحتى يثبت
صحَّة رأيه هذا فإنَّه استدلَّ بما يلي:
إهمال العلامة الإعرابيَّة عند أمن اللبس: حيث لا يُعْتَنَى
بتصحيح العلامة الإعرابيَّة اعتماداً على غيرها
من القرائن اللفظيَّة والمعنويَّة الأخرى، وذلك كما في قولهم: خرقَ الثوبُ المسمارَ.
وفي هذا المثال لا يصحُّ إسناد الخرق إلى الثوب،
وإنَّما يُسْنَد إلى المسمار، وبذلك يكون كلٌّ من الفاعل والمفعول معلوماً دون الحاجة
إلى التمييز بينهما بالعلامة الإعرابيَّة المميِّزة لكلٍّ منهما، ومن ذلك أيضاً قولهم:
حجرُ ضبٍّ خربٍ. ففي هذا المثال أُهْدِرَتْ العناية بالعلامة الإعرابيَّة الصحيحة اعتماداً
على قرينة التعبيَّة، وهو ما سمَّاه النحاة بالجرِّ على المجاورة.(3)
إمكانيَّة تحليل الجملة دون معرفة المعنى: ويحاول أنْ يثبت
بذلك أنَّ الإعراب ليس فرعاً من المعنى، ويصنع تمَّام حسَّان مثالاً لامعنى له، يقول
فيه:
قَاصَ التَّجينُ شِحَالَه بِتَريسِهِ الـ [الكامل]
فَاخِي فَلَمْ يَسْتِفْ بِعَطاسيةِ الْبَرَنْ
ثم
يعرب هذا البيت كما يلي:
قَاصَ:
فعل ماضٍ مبنيّ على الفتح لا محلَّ له من الإعراب.
التَّجينُ:
فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمَّة الظاهرة.
شِحَالَ:
مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة.
الهاء:
مضاف اليه مبنى على الضم في محلِّ جرٍّ.
الباء:
حرف جرٍّ مبنيّ على الكسر لا محلَّ له من الإعراب.
تريسِ:
مجرور بالباء وعلامة جرِّه الكسرة الظاهرة.
الهاء:
مضاف إليه مبنيّ على الكسر في محلِّ جرٍّ.
الفاخي:
نعت (لتريس) مجرور وعلامة جرِّه الكسرة المقدَّرة على الياء منع من ظهورها الثقل.
الفاء
حرف عطف مبنيٌّ على الفتح لا محلَّ له من الإعراب.
لَمْ:
حرف نفي وجزم وقلب مبنيٌّ على السكون لا محلَّ له من الإعراب.
يَسْتِفْ:
فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون، والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره(هو).
الباء:
حرف جرٍّ مبنيٌّ على السكون لا محلَّ له من الإعراب.
عَطاسيةِ:
مجرور بالباء وعلامة جرِّه الكسرة الظاهرة.
الْبَرَنْ:
مضاف إليه مجرور بكسرة مقدَّرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الرويِّ.(4)
وقد أورد تمَّام حسَّان هذا المثال وإعرابه ليستنتج
منه عدم كفاية العلامة الإعرابية لتحليل الجملة، فهي مجرد قرينة واحدة من عدَّة قرائن،
ولا تستحقُّ كلَّ هذا الاهتمام الذي حُظِيَتْ به، وبناء عليه فإنَّه سيعمل في نظريَّته
على توزيع الاهتمام بالتساوي بين القرائن اللفظيَّة منها والمعنويَّة.
قسم القرائن اللفظيَّة:
ويشمل هذا القسم ثماني قرائن وهي: العلامة الإعرابية،
والرتبة، والصيغة، المطابقة، والربط، والتضام، والأداة، والنغمة. ويجمع بين هذه القرائن
كونها تكون ملفوظة في الجملة، ويمكن تفصيلها كما يلي:
القرينة اللفظيَّة الأولى-
العلامة الإعرابيَّة: وقد اعتبرها تمَّام حسَّان أوفر القرائن
حظَّاً باهتمام النحاة، حيث أكثروا من الحديث عن الإعراب وأنوعه، ما يتعلَّق به من
قضايا نحويَّة. وعلى الرغم من أنَّ تمَّام حسَّان لا يخالف النحاة في جوهر العلامة
الإعرابية، ولا أنواع الإعراب، إلَّا إنَّه لا يوافقهم على قصر الاهتمام النحويِّ عليها
والتعظيم من شأنها، إذ يرى أنَّها قرينة كغيرها من القرائن التي تعين على تحليل الجملة،
وليست القرينة الوحيدة في ذلك.
القرنية اللفظيَّة الثانية- الرتبة: وهي علاقة بين جزأين
يدلُّ موقع كل منهما على الآخر، وهي إحدى مصطلحات النحاة، ويستخدمها تمَّام حسَّان
كاستخدامهم لها من حيث التقسيم إلى رتبة محفوظة كتقدم الفعل على الفاعل، وغير محفوظة
كما في المفعول به والمبتدأ والخبر مثلاً.(5)
القرينة اللفظيَّة الثالثة- الصيغة: ويقصد بذلك مبنى
الكلمة، إذ إنَّ لكلٍّ من الأسماء والأفعال صيغها الخاصَّة بها، وللصيغة دور في تحليل
الجملة فكلٍّ من الفاعل و نائب الفاعل و المبتدأ
لا يكون إلَّا اسماً، وبذلك تكون صيغة الاسم هي التي دلَّت على الباب النحويِّ كــ(باب
الفاعل)، أو(نائب الفاعل) أو(المبتدأ). ولا يتوقَّف دور الصيغة عند تحديد الباب النحويِّ
فحسب، تتعداه إلى الدخول في صلة بالعلاقات السياقيِّة(القرائن المعنويَّة)، فالفعل
اللازم مثلاً لا يتعدى إلى المفعول إلَّا بوساطة حرف الجرِّ، فيكون بذلك قد دلَّ مبنى
الفعل اللازم على علاقة سياقيَّة هي (التعدية).(6)
القرينة اللفظيَّة الرابعة- المطابقة: ويكون
مجالها الصيغ الصرفيَّة (مباني الكلمات) والضمائر، ولا تكون المطابقة في الأدوات ولا
الظروف، وتكون المطابقة في العلامة الإعرابية، والشخص من حيث التكلم والخطاب والغيبة،
والعدد من حيث الإفراد والتثنية والجمع، والنوع من حيث التذكير والتأنيث، والتعيين
من حيث التعريف والتنكير. والمطابقة في أمر من الأمور السابقة تقوِّي الصلة بين المُتَطابقَيْنِ
فضلاً عمَّا توثِّقه المطابقة من صلة بين الأجزاء المختلفة للتركيب.(7)
القرينة اللفظيَّة الخامسة- الربط: ويكون الربط بعدَّة
طرق منها الربط بعود الضمير إمَّا مباشرة كما في جملة: زيدٌ قامَ، حيث يعود الضمير
المستتر بعد الفعل إلى المبتدأ(زيد)، أو بضمير الاشارة وذلك كما في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} (8) في هذه الآية الكريمة تمَّ الرَّبط
بين المبتدأ ( لباسُ) وخبره جملة (ذلك
خير) عن طريق الإشارة (ذلك) وقد يكون الربط بعود الضمير بواسطة السبب وذلك كما في جملة: زيدٌ قامَ أبُوه. وغير ذلك من
طُرُق الربط المختلفة بين أجزاء الجملة.(9)
القرينة اللفظيَّة السادسة- التضام: و يقصد به استلزام
العنصر النحويِّ التحليليِّ عنصراً آخر فيسمى بـــ(التلازم)، وقد يكون بالتنافي بين
العنصرين فيسمى هذا ب(التنافي). ومن التضام
بمعنى التلازم ما يكون بين الصلة والموصول،
فوجود الموصول يستلزم وجود الصلة، وكذلك الأمر بالنسبة لــ(كلا، وكلتا) إذ يستلزمان
وجود مضاف إليه معرفة مثنىً. ويكون التضام
بمعنى التنافي فإذا وُجِد أحد المُتنافِيَيْنِ
فإن ذلك يستلزم استبعاد وجود الآخر، وذلك كما هو كائن بين التنوين والإضافة،
فوجود أحدهما ينتفي معه وجود الآخر.
القرينة اللفظيَّة السابعة– الأداة: يوجد نوعان من الأدوات:
أحدهما يدخل على الجمل، والآخَر يدخل على المفردات، فما يدخل على المفردات يكون رتبته
التقدم كالنواسخ، وأدوات النفي، وأدوات التوكيد، وأدوات الاستفهام ، يدخل على المفردات
مثل حروف العطف، وحروف الجرِّ، وحروف التنفيس والتقليل والتحقيق، فكلُّ هذه الأدوات
تتطلب وجود شيء معين بعدها، وبذلك تكون الأداة
قرينة متعددة الجوانب نتيجة لما تشير اليه
بمعناها الوظيفيِّ، وبما تشكِّله من تضام مع الكلمات الأخرى ـ(10)
القرينة اللفظيَّة الثامنة-النغمة: ويقصد بها تمَّام
حسَّان الطريقة الصوتيَّة التي تُنْطَقُ بها الجملة، ويرى أنَّ لبعض الجُمَل إطاراً صوتياً يختلف عن غيرها،
فالنغمة في جملة النفي تختلف عنها في جملة الإثبات، والتي تختلف بدورها عن جملتي العرض
والاستفهام. وقد تُغْنِي قرينة النغمة عن قرينة أخرى كقرينة الأداة في هذا البيت:
ثُمَّ قَالُواْ: تُحِبُّها ؟ قُلْتُ: بَهْراً [الكامل]
عَدَدَ النِّجْمِ والحَصَى وَالتُّرابِ(11)
في
البيت السابق أغنت النغمة الاستفهاميَّة في قوله (تحبها؟) عن أداة الاستفهام.(12)
قسم القرائن المعنويَّة:
وقرائن هذا القسم غير ملفوظة وإنَّما تُفْهَم
من سياق الكلام، لذلك يُطلق عليها تمَّام حسَّان اسم القرائن السياقية، وتشمل عدة قرائن
كما يلي:
القرينة المعنويَّة الأولى- الإسناد: وهي علاقة معنويَّة
تفيد تحديد الباب النحوي الخاص بالكلمة في إطار التركيب، وتدلُّ هذه القرينة على أنَّ
أحد طرفي الاسناد مبتدأ والآخَر خبر في جملة الاسميَّة، وأحد طرفي الإسناد فاعل أو
نائب عن الفاعل والآخَر فعل في الجملة الفعليَّة.
القرينة المعنوية الثانية- التعدية: وتدلُّ في معناها
على المفعول به، وتُعَدُّ هذه القرينة علاقة تخصيص لعلاقة الإسناد من حيث جهة وقوع الحدث، ذلك
كما في جملة: ضربَ زيدٌ عمراً. فالضرب المُسند إلى (زيد) هو نوع عام في المعنى، وقد
تم تخصيصه من حيث الجهة التي وقع عليها الحدث
لا من حيث الزمن، وذلك بتخصيصه بأنَّه وقع على(عمر)، وإذا فُهِمَتْ التعدية من أحدى
مشتقات المادة فذلك يعنى أنَّها تُفْهَم من
بقيَّة مشتقات المادة نفسها، فالتعدية التي فُهِمَتْ من الفعل (ضربَ) هي نفسها التي
تُفْهَم من المشتقات الأخرى كاسم الفاعل والمصدر.
القرينة المعنوية الثالثة- الغائيَّة: وتدلُّ هذه القرينة
على باب المفعول لأجله، وكذلك الفعل المضارع بعد (لام) التعليل، و(كي)، و(الفاء)، و(حتى).
وتدلُّ هذه القرينة على غائيَّة العلِّة، وذلك كما في باب المفعول لأجله نحو: أتيْتُ
رغبةً في لقائكَ، أو لألْقاك، أو كي ألقاك. ففي كلِّ هذا خُصِصَ الإتيان بكونه مُسَبَّباً
عن الرغبة في اللقاء، كما تدلُّ هذه القرينة على غائيَّة المدى، وذلك كما في الفعل
المضارع المنصوب بـــــ(حتى). وبذلك تكون الغائيَّة قرينة معنويَّة تفيد تخصيص الإسناد
وتدلُّ على جهة في فهم الحدث الذى يدلُّ عليه الفعل.(13)
القرينة المعنويَّة الرابعة- المعيَّة: وهى قرينة معنويَّة
تفيد معنى المصاحبة من غير طريق العطف أو الملابسة
الحاليَّة والعطف والملابسة يُعبَّرُ عنهما بالواو كالمعيَّة إلَّا أنَّ (الواو) فيهما
قرينة لفظَّية والواو هنا قرينة معنويَّة وهى تدلُّ على المفعول معه، والمضارع المنصوب
بعد (واو)المعيَّة كما في نحو: لا تأكل السمك
وتشربَ اللبن.
القرينة المعنويَّة الخامسة- الظرفيَّة: وهي قرينة معنويَّة
تفيد معنى المفعول فيه، وتشمل ظروف الزمان والمكان، وبعض حروف الجرِّ كــ(مذ، ومنذ)
والضمائر الإشارية كــ(هنا) وغير ذلك من الظروف، وهذه القرينة تقيِّد زمن الإسناد أو
مكانه.
القرينة المعنويَّة السادسة- التحديد أو التوكيد: وهي قرينة معنويَّة تدلُّ على المفعول المطلق، ويُقْصَدُ بالتحديد والوكيد هنا تقوية المعنى
الذى يفيده الحدث في الفعل، وقد يكون ذلك بإيراد
المصدر مفرداً منوناً على سبيل التأكيد، أو
مضافاً لمعيَّن ليفيد النوع، أو يأتي موصوفاً ليفيد النوع أيضاً، وفي كلِّ هذا ونحوه
تستخدم صيغة المفعول المطلق لتقوية المعنى، وعلى الرغم من أنَّ هذه الصيغة قرينة لفظيَّة
إلا أنَّ التقوية التي تدلُّ عليها تُعَدُّ قرينة معنويَّة.
القرينة المعنويَّة السابعة- الملابسة: وهي قرينة معنويَّة
تدلُّ على إفادة معنى (الحال)، وذلك عن طريق الاسم المنصوب أو الجملة مع (الواو) أو
بدونها، ومن ذلك جملة: جاء زيدٌ راكباً. والمعنى
في الجملة هو مجيء زيد ملابساً حالة الركوب،
وهو أمر يمكن التعبير عنه بالجملة كما في هذا المثال: جاءَ زيدٌ وهو يركبُ.( 14)
القرينة المعنويَّة الثامنة- التفسير: ويقصد به تفسير الذوات
عندما تكون عرضه للإبهام، وهو إبهام يكون في معنى الإسناد فيفسِّره التمييز نحو: طابَ
محمَّدٌ نفساً. أو يكون إبهاماً في معنى التعدية فيفسره التمييز نحو: زرعْتُ الأرضَ
شجراً. وربَّما يكون الإبهام متعلِّقاً بمفرد دالٍّ على غامض، فيأتي التمييز ليزيل
هذه الغموض نحو: اشتريْتُ متريْنِ حديداً . ويتضح ما سبق ذكره أنَّ الابهام غموض تزيله قرينة التفسير.
القرينة المعنويَّة التاسعة- الإخراج: وهي قرينة معنويَّة
تدلُّ على باب المُسْتَثْنَى حيث يُخْرَج المُسْتَثْنَى من علاقة الإسناد، وإخراجه
أمر يُفْهَم من السياق، وذلك كما في جملة: جاءَ القومُ إلَّا زيداً. ففي هذه الجملة
أُسْنِد المجيء إلى القوم وأُخْرِج زيد من هذا الإسناد (إسناد المجيء)، وتتضافر قرينة
الإخراج المعنويَّة مع قرينة لفظيَّة هي (إلَّا) فيُفْهَم من كليهما معاً النصب. وكلُّ
القرائن المعنويَّة السابقة الذكر – ماعدا الإسناد-تتفرع من قرينة معنويَّة كبرى هي
قرينة التخصيص.
القرينة المعنويَّة العاشرة-المخالفة: وهي نوع من استخدام
القيم الخلافيَّة واتخاذها قرائن معنويَّة على الإعرابات المختلفة، ويدخل فيها باب
الاختصاص، والذي ينصبه النحاة بفعل محذوف تقديره (أخصُّ)، ويرى تمَّام حسَّان أنَّ
سبب النصب هنا هو المخالفة بين الاسم المنصوب على الاختصاص والخبر، وذلك كما في هاتين
الجملتين:
1.
نحن العربُ نكرمُ الضيفَ ونغيثُ الملهوفَ.
2. نحن العربَ نكرمُ الضيفُ ونغيثُ الملهوفَ.
فكلمة
( العربُ) في الجملة الأولى خبر وما بعدها استئناف، بينما هي مختصُّ في الجملة الثانية،
وما بعدها هو الخبر. ولو كان المعنى واحداً في الجملتين لما اختلفت العلامة الاعرابيَّة
فيهما، ولكن أُرِيْد المخالفة بينهما، وهذه المخالفة قرينة معنويَّة تضافرت مع قرينة
لفظيَّة هي الحركة الإعرابيَّة فبيَّنتا أنَّ
(العرب) في إحدى الجملتين مختصٌّ، بينما
هي في الاخرى خبر. وهذه المخالفة تصلح أيضاً لتفسير الفعل المضارع المنصوب في جملة:
لا تأكلْ السمكَ ونشربَ اللبن، وكذلك في تفسير المُسْتَثْنَى المنقطع، بالإضافة إلى
تفسير نصب الاسم بعد (ما أفْعَلَ) في أسلوب التعجب والاسم المنصوب الواقع بعد الصفة
المشبهة باسم الفاعل، والاسم المنصوب في باب التحذير والإغراء.(15)
القرينة المعنويَّة الحادية عشرة- النسبة: وهى قرينة معنويَّة
كبرى تنضوي تحتها قرائن صغرى منها: معاني حروف الجرِّ، وكذلك معنى الإضافة في باب المضاف
إليه، وهي تفسير لعلاقة الإسناد , أو ما يقع
في نطاقها، وقد اطلق عليها تمَّام حسَّان قرينة النسبة لأنَّها تجعل علاقة الإسناد
علاقة نسبيَّة سوء أكانت هذه العلاقة بين المبتدأ وخبره أم الفعل وفاعله، كذلك الأمر
بالنسبة إلى ما يقع في نطاق الاسناد من نسبه بين المتضايِفَيْن (المُضَاف و المُضَاف
إليه).
القرينة
المعنويَّة الثانية عشرة- التبعيَّة: وهى قرينة معنويَّة تحتوى على قرائن صغرى هي:
النعت، والعطف، والتوكيد ، والبدل، وهذه القرائن المعنويَّة تتضافر مع قرينة لفظيَّة
كالمطابقة، فتكون هذه المطابقة بين التابع ومتبوعة في العلامة الإعرابية، كما تتضافر
مع قرينة لفظيَّة كالرتبة إذ إنَّ رتبه التابع التأخُّر عن متبوعة . وكذلك الأمر بالنسبة
إلى تضافر قرينة التبعيَّة مع القرائن الأخرى.(16)
فائدة نظريَّة تضافر القرائن:
يرى تمَّام حسَّان أنَّ فهم التعليق على ضوء
ما ذكره من قرائن سيكون مفيداً لفهم لظواهر النحويَّة، فضلاً عن نفي الجدال الذى خاض
فيه النحاة حول منطقيَّة العمل في بعض الكلمات دون غيرها، وأصالة العمل عند بعض الكلمات
دون الأخرى ، أو قوَّة العامل وضعفه، أو تعليلاته، وسيترتب على القول بالقرائن بديلاً
عن العامل النحوي الاكتفاء- في تحليل الكلمات المرفوعة أو المنصوبة أو المجرورة أو
المجزومة - بقولنا: مرفوع أو منصوب أو مجرور أو مجزوم فقط، دون القول مرفوع بكذا او منصوب بكذا ، بل يمكن القول
في المرفوع مثلاً أنَّه مرفوع على الفاعليَّة،
وعلى المنصوب بأنَّه منصوب على المفعوليَّة.
ووفقاً لهذا القول ستُغْني هذه القرائن عن
العامل النحويِّ وما يُفضِي إليه من تعقيد وتطويل في الإعراب.(17)
نموذج لتضافر القرائن في التحليل النحويِّ:
يرى تمَّام
حسَّان أنَّ التعليق هي الفكرة المركزيَّة في النحو العربيِّ، لأنَّ فهم التعليق فهماً
صحيحاً يُغْنِي عن فكرة العامل النحويِّ، ويتبع هذا الرأي بأنموذج تطبيقيٍّ يوضِّحه
وذلك بإعرابه لجملة: ضربَ زيدٌ عمراً، على طريقة تضافر القرائن، فيكفى أنْ ينظرَ إلى
الفعل (ضَرَبَ) ليجده على صيغة (فَعَلَ)، فيعلم أنَّه فعل ماضٍ. ثم ينظر إلى الاسم (زيد) فيعربه كما يلي:
1.أنَّه
ينتمي إلى مبنى الاسم. (قرينة
الصيغة)
2.أنَّه
مرفوع. (قرينة
العلامة الإعرابيَّة)
3.العلاقة
بينه وبين الفعل هي الأسناد. (قرينة التعليق)
4.أنَّه
ينتمى لرتبة التأخر. (قرينة
الرتبة)
5.تأخُّره
عن الفعل رتبة محفوظة. (قرينة الرتبة)
6.الفعل
معه مبنيٌّ للمعلوم. (قرينة
الصيغة)
7.الفعل
معه مُسْنَد للمفرد الغائب. (قرينة المطابقة)
وبهذه
القرائن عُرِفَ أنَّ الاسم( زيد) هو الفاعل، وكذلك يتمُّ تحليل الاسم الآخَر(عمراً)
كما يلي:
1.أنَّه
ينتمي إلى مبنى الاسم. (قرينة
الصيغة)
2.أنَّه
منصوب. (قرينة العلامة
الإعرابيَّة)
3.العلاقة
بينه وبين الفعل هي التعدية. (قرينة التعليق)
4.رتبته
التأخُّر عن الفعل والفاعل. (قرينة
الرتبة)
5.تأخُّره
عن الفعل رتبة محفوظة. (قرينة الرتبة)
وبهذه
القرائن عُرِفَ أنَّ الاسم( عمراً) هو المفعول به في الجملة.(18)
موقف الدراسين من النظريَّة:
اعتبر تمَّام حسَّان كتابة (اللغة العربيَّة
معناها ومبناها) أجرأ محاولة لغويَّة لإعادة تركيب الافكار اللغويَّة بعد محاولتي سيبويه
وعبد القاهر الجرجانيِّ، وتوقَّع لهذه الدراسة أنْ تبدأ عهداً جديداً في فهم اللغة
العربيَّة من حيث المعنى المبنى، ذلك لو أنَّها حُظِيَتْ بالاهتمام الكافي من قبل الدراسين.(19)
وهو اهتمام تأخر سنوات طوال حتى بدأت بشائر النقد تظهر بعد السنين، وتوالى القادحون
والمادحون بعد ذلك.(20)
وقد اعتبرها أحد الدراسين محاولة أعادت النحو
إلى الموقع الصحيح من دراسة اللغة، فلَمْ يعد وفقاً لهذه النظريَّة علماً يقتصر على
دراسة الحركة الاعرابيَّة، بل أصبح يتعداها إلى دراسة التركيب اللغويِّ، وفهم مدلوله
مع دراسة قرائن التعليق.(21)
كما اعتبرها أحد الباحثين نظريَّة شاملة لكل
جوانب اللغة العربيَّة، وقد كشفت عن العلاقات التي تربط بين أنظمة اللغة العربيَّة
من نظام نحويٍّ، وصرفيٍّ ، وصوتيٍّ، وبيان تفاعل تلك الأنظمة عن الكشف عن المعنى الوظيفيِّ
. فضلاً عن كشفها ما يربط تلك الأنظمة اللغويَّة بالمعجم اللغويِّ، كما حوَّلت الدرس
النحويِّ من منهجه اللفظيِّ المتمثل في الإعراب إلى منهج قرائن التعليق الذى يُعلِي
من مقام المعنى على حساب الشكل.(22) وهذا الرأي ساد عند المدافعين عن هذه النظريَّة،
وقد وجدوا فيها بديلاً مناسباً عن فكرة العامل النحويِّ وما يترتب عليه من تقدير وتأويل.
وقد
تناول بعض الدراسين النظريَّة بالقدح في بعض جوانبها، وقد تلخَّصت اعتراضاتهم على النظريَّة فيما يلي:
1.
إعرابه الجملة دون معرفة المعنى المعجميّ لمفرداتها، فكيف يُعْربُ(قاصَ) فعلاً ماضياً
دون معرفة معنى هذه الكلمة، ولِمَ لا تُعْرَب اسم فاعل من(قصا)، وكذلك الأمر في بقيَّة
الكلمات الأخرى التي أُعْرِبَتْ دون معرفة معناها المعجميّ.(23)
2.
عدم دقّة بعض القرائن في تصنيف الأبواب النحويَّة، وقد جاء المُسْتَثْنَى تحت قرينة
الإخراج، ولا يوجد ما يمنع من أنْ يأتي تحت
قرينة المخالفة، لأنَّ المُسْتَثْنَى مخالف في الحكم للمُسْتَثْنَى منه.(24) وكذلك
الأمر بالنسبة لقرينة التخصيص، فهي قرينة عامَّة تدخل فيها أبواب نحويَّة أخرى غير
المنصوبات، وذلك مثل التخصيص بحرف الجرِّ نحو: يذهبُ المريضُ إلى المُسْتَشفى. ففي
هذه الجملة خُصِصَ الذهاب بكونه إلى المُسْتَشفى بحرف الجرِّ(إلى).(25)
3.
كثرة القرائن وتضافرها فيه استبدل بالعامل ما هو أكثر تعقيداً منه.(26)
ويرى الباحث أنَّ هذه النظريَّة قد أحدثت حراكاً
في ميدان البحث اللغويّ بانقسام الدارسين حولها إلى مؤيِّد ومعارض، واتسمت ردود المدافعين
بالمبالغة في تقدير النظريَّة والإعلاء من شأنها دون التطرق بالردِّ إلى ما وُجِّه
لها من نقد يشكِّك في جدواها. أمَّا المعارضون للنظريَّة فقد ركزوا نقدهم على جوانب
جزئيَّة منها دون تحليل النظريَّة بكاملها وتقويهما لمعرفة الى أيِّ مدىً نجحت النظريَّة
أو فشلت في تطبيق ما دعت إليه أفكار.
تقويم نظريَّة تضافر القرائن:
ذكر تمَّام حسَّان مجموعة من القرائن اللفظيَّة
والمعنويَّة، والتي تتضافر جميعها لتُعين على تحليل الجملة وفهم المعنى المراد منها،
وقدّم ذلك على شكل نظريَّة لها أنموذج تطبيقيُّ للأفكار التي دعت إليها، ويرى الباحث
أنَّ تقويم هذه النظريَّة يمكن أنْ يكون من خلال عدّة أمور تتمثل في: مدى أصالة النظريَّة
أو تبعيَّتها لغيرها، وانسجام أفكارها وتطبيقاتها وعدم تعارضها فيما بينها، ومدى صلاحيَّتها
للإغناء عن فكرة العامل النحويِّ.
أولاً- مدى أصالة النظريَّة: إنَّ هذه القرائن التي ذكرها تمَّام حسَّان لم تُخْفَ
عن النحاة، فقد أشاروا إليها في مؤلَّفاتهم النحويَّة، فمن ذلك قول ابن مالك في تعريف
العامل: ((المُسْنَد إليه فعل أو مضمَّن معناه، تام مقدَّم فارغ غير مصوغ للمفعول،
وهو مرفوع بالمسند حقيقة إذا خلا من (مِنْ)
و(الباء) الزائدتين وحكماً إن جُرَّ بأحدهما أو بإضافة المسند، وليس رافعه الإسناد
خلافاً لخَلَف(*) وان قدّم ولم يلِ ما يطلب الفعل فهو مبتدأ وإن وليه ففاعل فعل مضمر
يفسره الظاهر.)).(27) فهذا التعريف لابن مالك فيه تنويه ببعض القرائن اللفظيَّة، فقوله:
((المُسْنَد إليه فعل)) يدلُّ على قرينة (الإسناد) وقوله: ((تام مقدَّم فارغ غير مصوغ
للمفعول)) يدلُّ على قرينة (الصيغة)، وقوله: ((مرفوع بالمسند حقيقة)) يدلُّ على قرينة
(العلامة الإعرابيَّة)، وقوله: ((وان قدّم ولم يلِ ما يطلب الفعل فهو مبتدأ)) يدلُّ
على قرينة (الرتبة)، إذ إنَّ رتبة الفاعل التأخير عن الفعل. ويستمر ابن مالك في الحديث
عمَّا يتعلَّق بهذا الباب (باب الفاعل)، إذ يقول: ((ويلحق الماضي المُسْنَد إلى مؤنث او مؤول به أو مخبر به
عنه أو مضاف إليه مقدّر الحذف تاء ساكنة)).(28) فقوله هذا يدلُّ على قرينة لفظيَّة
هي قرينة(المطابقة). أمَّا قرينة الربط التي تحدَّث عنها تمَّام حسَّان فقد قال عنها
الأشمونيُّ في معرض حديثه عن الجملة الواقعة خبراً: ((يشترط في الجملة أن تكون حاوية
معنى المبتدأ الذى سِيْقَتْ خبراً (له) ليحصل الربط بذلك بان يكون فيها ضميره
...)).(29) فقول الأشمونيُّ هنا يدلُّ على قرينة (الربط ). أما قرينة التضام التي تحدَّث
عنها تمَّام حسَّان فقد اشار اليها ابن مالك
في بعض المواضع من كتابة، ومن ذلك قوله: ((( كلا) و(كلتا) ولا يضافان إلَّا
إلى معرفة مثنَّاة لفظاً ومعنىً أو معنىً دون لفظ)).(30) فقوله:((لا يضافان إلَّا إلى
معرفة)) فيه إشارة إلى استلزام عنصر ما مثل ( كلا) أو (كلتا) عنصراً آخَراً مثل
المعرفة المثنَّاة لفظاً معنىً أو معنىً دون اللفظ، وهذا الاستلزام هو الذى
أطلق عليه تمَّام حسَّان قرينة (التضام).أمَّا قرينة الأداة فقد أشار إليها ابن مالك
في معرض حديثه عن وجوب تقديم الخبر بقوله:
((ويجب تقدم الخبر ان كان اداة الاستفهام، أو مضافاً إليها)).(31) وهذا النصُّ
لابن مالك يشير إلى قرينة(الأداة)، إذ إنَّ أداة الاستفهام لها حقُّ الصدارة ، وهو
الأمر الذى أوجب تقديم الخبر إذا كان أداة استفهام أو مضافاً إليها. وكذلك الأمر بالنسبة
إلى القرائن المعنويَّة، إذ يكفي الرجوع إلى تعريفات النحاة لأنواع المعمولات- ليجد
أنَّها تشير إلى القرائن المعنويَّة التي ذكرها تمَّام حسَّان. وبناء على ما سبق ذكره
يرى الباحث إنَّ فكرة القرائن- باستثناء قرينة(النغمة)- لم تكن خافية على النحاة، وليست من ابتكار تمَّام
حسَّان، ولكن الفضل يرجع إليه في تجميع تلك القرائن، وتقديمها إلى القرَّاء بطريقة
تبدو
مبتكرة في الطرح والمناقشة، بالإضافة إلى دراسته لقرينة(النغمة)، وبيان دورها في فهم
المعنى المراد من الجملة.
ثانياً- مدى انسجام القرائن وتطبيقاتها: هذه النظريَّة قد
حاولت تحليل الجملة على أساس من القرائن التي ذُكرت من قبل، إلَّا أنَّها قد شابها
شيء من القصور في بعض الجوانب، ويتمثَّل ذلك فيما يلي:
1.
كثرة القرائن: وعلى الرغم من أنَّ هذه الكثرة لاتُعدُّ قصوراً في حدِّ ذاتها، إلَّا
أنَّ الجهد المبذول في معرفة تلك القرائن وتمييزها بعضها عن بعض- غير متناسب مع الفائدة
التي تسعى النظريَّة إلى تحقيقها، حيث يقول تمَّام حسَّان عن الغاية من النظريَّة: ((إننا سنكتفى في تحليل الكلمات المعربة
بقولنا مرفوع أو منصوب أو مجرور أو مجزوم فقط دون قولنا مرفوع بكذا أو منصوب بكذا الخ،
بل يمكننا إذا أردنا أن نقول مثلاً ((مرفوع على الفاعليَّة)) ((منصوب على المفعوليَّة)).)).(32)
وهذا أمر توصَّل إليه بعض النحاة دون حشد هذه القرائن، فمن ذلك رأي خلف الأحمر عن رفع
الفاعل هو معنى الفاعليَّة.
2.
تداخل القرائن فيما بينها: فمن ذلك قرينة المعيَّة وهى قرينة معنويَّة تدلُّ على باب
المفعول معه والمضارع المنصوب بعد (واو) المعيَّة، وهذه المعيَّة ذاتها تُفْهَم من
قرينة لفظيَّة هي (الأداة)، إذ تدلُّ الاداة ( الواو) على معنى (مع)، وبذلك تشترك القرينتان في مدلول
واحد. وكذلك الأمر بالنسبة لقرينة التحديد والتوكيد وهي قرينة معنويَّة تدلُّ على باب
المفعول المطلق، إلا أنَّ هذه القرينة تُفْهَم من قرينة لفظيَّة- في بعض صورها- من
قرينة الصيغة (المصدر).(33) فكلا القرينتين تشتركان في المدلول. وهذا النوع من التداخل
بين بعض القرائن يقلِّل من جدوى تقسيم القرائن إلى لفظيَّة ومعنويَّة طالما أنَّ الحدود
الدلاليَّة بينهما تظلُّ غير واضحة.
3.
التناقض وعدم الاطراد: وقد اتصفت بعض القرائن بعدم الاطراد في تفسير التراكيب النحويَّة
فقرينة الإخراج مثلاً قرينة معنويَّة يُدخل فيها تمَّام حسَّان باب المُسْتَثْنَى،
باعتبار أنَّ المُسْتَثْنَى خارج عن علاقة الإسناد.(34) ثمَّ يُخْرَج المُسْتَثْنَى
المنقطع من هذه القرينة، لينضوي تحت قرينة المخالفة نحو: ما قامَ القومُ إلا حماراه.(35)
ولا يوجد ما يمنع من تصنيف المُسْتَثْنَى المنقطع تحت قرينة الإخراج، لأنَّ ما بعد
أداة الاستثناء يخرج عمَّا دخل فيه ركنا الإسناد من علاقة معنويَّة، حيث يخرج (حماراه)
في المثال السابق مما اتصف به القوم وهو(عدم القيام). وبذلك لم يكن هنالك مبرر لإخراج
المُسْتَثْنَى المنقطع من قرينة الإخراج وادراجه تحت قرينة المخالفة سوى الانسياق خلف
العلامة الإعرابيَّة. كما أنَّ قرينة الإخراج قد تتناقض مع قرين أخرى كالإسناد، وذلك
كما في جملة: ما قام إلا زيدٌ. فهذه الجملة
يصعب تحليلها وفقاً لطريقة القرائن فمعنى الإسناد فيها قائم لكون (زيد) مُسْتَثْنَى
من عدم القيام، كما أنَّ معنى الإسناد فيها قائم لكون (زيد) مسند إليه الفعل المنفي
(ما قام)، وهذا يعنى تناقض القرينتَيْنِ في هذا الموضع.
ثالثاً- صلاحيَّة النظريَّة بديلاً من العامل النحويِّ: قدَّم تمَّام حسَّان
نظريَّة تضافر القرائن على أنَّها البديل المناسب عن العامل النحويِّ، وذلك نتيجة لما
توفره هذه النظريَّة من توزيع عادل للاهتمام بين القرائن، وهذا مالا يتوفر في فكرة
العامل النحويِّ على حسب رأيه،(36) وهذه النظريَّة لا تصلح للحلول في محلِّ العامل النحويِّ وذلك للأسباب الآتية:
1.
لما احتوت عليه النظريَّة من عيوب داخليَّة تتعلق بتداخل هذه القرائن أحياناً، وتعارضها فيما بينها أحياناً أخرى، وكثرة قرائنها مقارنة
بالفائدة المتوقَّعة تحقيقها منها، وهي أمور سبقت الإشارة إليها.
2.
اعتمادها التامُّ على العامل النحويِّ، ويظهر ذلك جليَّاً في استخدام تمَّام حسَّان
لمصطلحات لها علاقة وثيقة بالعامل النحويِّ كحديثه عن الإعراب وأنواعه من ظاهر ومقدَّر
وإعراب على المحلِّ وإعراب بالحذف، فضلاً عن حديثه عن الحذف والتقدير.(37) وكلُّ ذلك
مسائل إعماليَّة خاصة بالعامل النحويِّ، وهو يستخدم مصطلحاتهم وآراءهم فيه، فإنْ صحَّ
نقده لهم فلا تصلح نظريَّته بديلاً من العامل النحويِّ وهى تعتمد عليه في بنائها.
3.
عجز النظريَّة عن تفسير بعض الظواهر النحوية التي تفسِّرها فكرة العامل النحويِّ، حيث
تحدَّث تمَّام حسَّان في نظريَّته عن قرينة الصيغة وبناء عليها قرَّر أنَّه((لا نتوقع
للفاعل ولا المبتدأ ولا نائب الفاعل أن يكون غير اسم ولوجاء فعل في هذا الموقع لكان
بالنقل اسما محكيَّا(*))).(38) وبذلك تعجز نظريَّته عن تفسير بعض الظواهر النحويَّة
لمجيء الفاعل أو نائب الفاعل مصدراً مؤوَّلاً، وذلك كما في جملة: يسرَّني أنْ تنجحَ.
فالمصدر المؤوَّل (أن تنجحَ) يُعْرَب في محلِّ رفع فاعل، إلَّا أنَّه وفقاً لنظريَّة
تضافر القرائن سيُحلَّل على أنَّه أداة وفعل
حسب قرينة الصيغة، وكذلك الأمر بالنسبة لوقوع المصدر المؤوَّل مبتدأ كما في قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ}(39) في هذه الآية الكريمة وقع المصدر المؤوَّل في محلِّ رفع مبتدأ، بينما تصنِّفه
نظريَّة تضافر القرائن أداة وفعل حسب قرينة الصيغة. ومن التراكيب ما لَمْ تقدِّم له
النظريَّة تحليلاً مُقْنعاً مثل جملة النداء حيث اعتبرها تمَّام حسَّان كلاماً ((من
الجمل التي تعتمد على الاداة ومعناها)).(40) وهذا يُعدُّ تراجعاً عن القول بتضافر القرائن
في تحليل الجملة، اذ يحلِّل الجملة على أساس من قرينة واحدة، وهو أمر سبق أنْ عابه
على النحاة وقد قصروا التحليل على العلامة الإعرابية، حتى وإن قُبِلَت هذه الفرضيَّة-
فرضيَّة تحليل الجملة على أساس من قرينة واحدة-
فستظل غير قابلة للصمود في بعض صور النداء، كالصورة التي تُحْذَف فيها أداة النداء،
وذلك كما في قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا}(41)
في هذه الآية الكريمة حُذِفَتْ أداة النداء، وهي أداة يعوَّل عليها في تحليل جملة النداء
وفقاً لنظريَّة تضافر القرائن، وعلى الرغم من أنَّ تمَّام حسَّان يعترف بحذف هذه القرينة
أحياناً،(42) إلَّا أنَّه لا يذكر كيفيَّة تحليل الجملة بعد حذفها. أمَّا في جملة التحذير فإنَّ النحاة يقدِّرون فعلاً
تقديره (احذر)، بينما يخالفهم تمَّام حسَّان في ذلك، ولا يرى في مثل هذا التركيب سوى أنَّ ((الأوضح فيه أن ضمير النصب
المنفصل يتعدد معناه بين التعدية وهى معنى المفعول به وبين معنى الأداة)).(43) وهو
يحلِّل جملة التحذير على أساس قرينتين إحداهما لفظيَّة وهي الأداة(إيَّاك) والأخرى
معنويَّة هي التعدية، وهي مُسْتَفادة من قرينة الأداة (إيَّاك)، ولكن مع ذلك يظلُّ
هذا التحليل على أساس من قرينة واحدة هي قرينة الأداة، وذلك لأنَّ قرينة التعدية تقتضي
وجود فعل ظاهر أو مقدَّر، ولا فعل ظاهر في الجملة، ولا يوافق تمَّام حسان على القول
بالفعل المحذوف في هذه الجملة. وقد فسَّر تمَّام حسَّان التحذير من نوع: الأسدَ الأسدَ
على أنَّه منصوب على المخالفة واعتبره من المنصوبات التي تكون فيها ((الفتحة خلافيَّة
تفرق بين معنى هذه المنصوبات في حالة النصب وبين معناها في حالة الرفع )).(44) وفي
هذا أيضاً تحليل على أساس من قرينة واحدة هي (المخالفة) فضلاً عن أنَّ هذه المخالفة
تظل مُبهمة في مثل هذا المثال فما هو المعنى المراد مخالفته في حالة الرفع منه؟
يتضح ممَّا سبق ذكره أنَّ نظريَّة تضافر القرائن
لا تصلح بديلاً من فكرة العامل النحويِّ، نتيجة لما احتوت عليه من قصور وتناقض بين
بعض أجزائها، فضلاً عن عجزها عن تفسير بعض الظواهر النحويَّة التي فسَّرتها فكرة العامل
النحويِّ على طريقتها الخاصة.
كما أنَّ ما وُجَّه لهذ النظريِّة من نقد لا يقلِّل
من شأنها وأهميَّتها، خاصة إذا وضعت في سياقَيْها التاريخيّ(*) والموضوعيّ،(**) إذ
تظلُّ دراسة لغويَّة شاملة أقرب إلى علم اللغة منها إلى علم النحو، وقد استفادت من
التراث النحويِّ، وقامت على توظيفه في سبيل تقديمة بطريقة (عصر تراثيَّة ) تجمع ما
بين الأصالة التي يمثلها التراث النحويُّ بكلِّ ما فيه من تحليل وتأويل وتعليل- والمعاصرة
التي تقدِّم كلَّ ذلك في أسلوب سهل أقرب إلى فهم الدراس المعاصر، الذى قد يجد صعوبة
في مقاربة تلك الكتب التراثيَّة، وإن كانت لا تغنية عن الرجوع إليها في بعض الامور.
___________________________________
(1)
تمَّام حسَّان، اللغة العربيَّة معناها ومبناها، ص: 207.
(2)
المصدر السابق، ص: 232.
(3)
المصدر نفسه، ص: 234.
(4)
نفسه، ص: (183-184).
(5)
نفسه، ص: (205-207).
(6)
نفسه، ص: (210- 211).
(7)
نفسه، ص: 212.
(8)
سورة الأعراف: الآية: 26.
(9)
تمَّام حسَّان، اللغة العربيَّة معناها ومبناها، ص: (213- 215).
(10)
المصدر السابق، ص: (216-225).
(11)
عمر بن أبي ربيعة، ديونه، ص: 73.
(12)
تمَّام حسَّان، اللغة العربيَّة معناها ومبناها، ص: (226-228).
(13)
المصدر السابق، ص: (191- 196).
(14)
المصدر نفسه، ص: (196- 198).
(15)
نفسه، ص: (199- 201).
(16)
نفسه، ص: (201- 204).
(17)
نفسه، ص: 233.
(18)
نفسه، ص: (180-182).
(19)
نفسه، ص: 10.
(20)
تمَّام حسَّان، الخلاصة النحويَّة، عالم الكتب، القاهرة، ط: 1، 2000م، ص: 8.
(21)
عبد الوارث مبروك، في إصلاح النحو العربيِّ،
دار القلم، الكويت، ط: 1، 1980م، ص: 176.
(22)
مصطفى حميدة، نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربيَّة، مكتبة لبنان، بيروت،
ط: 1، 1997م، ص: 67.
(23)
ياقوت، ظاهرة الإعراب في النحو العربيِّ، ص: (80– 81).
(24)
الأنصاريُّ، نظريَّة العامل في النحو العربيِّ، ص: 151.
(25)
ياقوت، ظاهرة الإعراب في النحو العربيِّ، ص: 85.
(26)
عطا محمد موسى، مناهج الدرس النحويّ في العالم العربي في القرن العشرين،
دار الإسراء عمان، ط: 1، 2002 م، ص: 323.
(*)
المُراد خلف الأحمر، وهذا الرأي الذي نُسبَ له منسوب لهشام بن معاوية الضرير، ويُنْسبُ
إلى خلف أنَّ الفاعل مرفوع بمعنى الفاعليَّة. انظر: السيوطيّ، عبد الرحمن بن أبي بكر،
همع الهوامع، تــــ: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلميَّة، بيروت، ط: 1، 1998م، جــــ:
1، ص: 510.
(27)
ابن مالك، تسهيل الفوائد، ص: 75.
(28)
المرجع السابق، ص: 75.
(29)
الأشمونيُّ، شرح الأشمونيّ على ألفيَّة ابن مالك، جــــ: 1، ص: (255- 256).
(30)
ابن مالك، تسهيل الفوائد، ص: 157.
(31)
المرجع السابق، ص: 47.
(32)
تمَّام حسَّان، اللغة العربيَّة معناها ومبناها، ص: 233.
(33)
المصدر السابق، ص: (196- 198).
(34)
المصدر نفسه، ص: 199.
(35)
نفسه، ص: 201.
(36)
نفسه، ص: 233.
(37)
نفسه، ص: 219.
(38)
نفسه، ص: 210. يقصد بالاسم المحكي نحو الفعل (ضرب) في جملة مثل (ضرب فعل ماضٍ) فيعرب(ضربَ)
في محل رفع مبتدأ و(فعل) خبره، وماضٍ نعت وبذلك يكون (ضرب) اسماً محكيَّاً وقع مبتدأ.
(39)
سورة البقرة: الآية: 184.
(40)
تمَّام حسَّان، اللغة العربيَّة معناها ومبناها، ص: 219.
(41)
سورة يوسف: الآية: 29.
(42)
تمَّام حسَّان، اللغة العربيَّة معناها ومبناها، ص: 239.
(43)
المصدر السابق، ص: 219.
(44)
المصدر نفسه، ص: (219- 220).
(*)
وقد وضعت هذه النظريَّة في فترة سيطرة المنهج
الوصفيِّ على الدراسات اللغويَّة وافتتان الدراسين به. وكانت المحاولة وصفيَّة لدراسة
اللغة العربيَّة وفقاً لهذا المنهج، وقد بدأ فيهما اعتباراً من العام1955م، وحتى
1967م، وهذا ما يؤكِّد ريادتها في هذا النوع
من الدراسات. انظر: حسَّان، اللغة العربيَّة معناها ومبناها، ص: (7-9).
(**) جاءت هذه القرائن في سياق
وصف اللغة العربيَّة بكل أنظمتها: الصوتيَّة، والصرفيَّة، والنحويّة، والمعجميَّة،
والتي جاء بعضها مكملاً بعضاً وما كان لهذه القرائن ان تخضع للدراسة المنفصلة لولا
اعتبارها تمام حسان صلاحيتها للحلول بديلاً من العامل النحويِّ وهو بذلك يقدم فرضية
تست
تعليقات
إرسال تعليق