ملامح فكرة العامل النحوي في كتاب سيبويه

 

ملامح فكرة العامل النحوي في كتاب سيبويه

أ‌.     محمَّد إبراهيم محمَّد عمر همَّد محمود



إرهاصات القول بالعامل النحويِّ

     اختلط العرب بغيرهم من الامم إبَّان فترة الفتوحات الاسلاميَّة في عهد الخلفاء الراشدين، وكان لذلك الاختلاط أثر سيئ على اللغة العربيَّة، إذ فشى فيها اللحن، فخشى المسلمون على كلام الله (القرآنا لكريم) مِنْ أنْ يشوبه التحريف على ألسنة الأعاجم ومن خالطهم، فدفعهم ذلك إلى البحث عن حلٍّ لتلك المشكلة، فوضع أبو الأسود الدؤليُّ أسساً في النحو؛ ليقي بها الناس ألسنتهم من اللحن.

    ومنذ ذلك العهد أصبح النحو علماً يهمُّ العامَّة والخاصَّة، وأقبل الناس على تعلُّمه وتعليمه، فبرع في النحو بعد أبي الأسود مجموعة من النحاة، كان لها أثرها البارز في تقعيد النحو، وظلَّت آراء تلك المجموعة متداولة فيحلقات الدروس النحويَّة، ولم يظهر كتاب متكامل جامع لأبواب النحو العربيِّ قبل ظهور (الكتاب) لسيبويه. والذي يظهر فيه العامل النحويُّ وقد صار أساساً للتعقيد النحويِّ فيه.

مرحلة التقعيد على أساس العامل النحويِّ

     وهي مرحلة ظهور كتاب سيبويه، وقد استفاد من إشارات السابقين وآرائهم في العامل النحويِّ، فبدأ التقعيد على أساسه من الصفحات الأولى في كتابه، حيث يتحدث عن علامات الإعراب والبناء تحت باب باسم (هذ اباب مجاري أواخر الكلم من العربية)، ويذكر أنَّها ثمانية مجارٍ، ويجمعها في اللفظ أربعة أضرب، ثم يوضح للمُتَلَقِّي سبب ذكره له بأنَّها ثمانيةمجارٍ بقوله :((لأفرُقَ بين ما يَدخله ضربٌ منه هذه الأربعة لما يُحدِثُ فيه العاملُ– وليس شيءٌ منها إلا وهو يزول عنه – وبينَ ما يُبْنَى عليه الحرفُ بناءً لايزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل، التي لكلّ عامل منها ضربٌ من اللفظ في الحرف، وذلك الحرفُ حرف الاعراب.)).(1) فهنا ينصُّ سيبويه على أنَّ علامات الإعراب والبناء متشابهة في اللفظ، وإنَّما الفرق بين تلك العلامات يرجع إلى أنَّ بعضها يرتبط ظهوره بعامل ما في الكلام، بخلاف بعضها الآخرالذي لا يزول عن أواخرالكلم، ولم يكن ظهوره بسبب العامل. ويمضي سيبويه قدماً في تقعيد كتابه على أساس العامل النحويِّ، ويظهر ذلك فيما يلي:

أولاً- عرض القواعد والمسائل النحويَّة والتبويب على أساس العامل: لم يقصر سيبويه حديثه عن العامل على بيان ما يحدثه في أواخر الكلم من أثر، بل تخطَّاه إلأى تتبُّع ذلك الأثر بطريقة منهجيَّة منظمة، حيث يجمع المباحث المتشابهة في باب واحد أشبه بالفهرس ثم يفصِّل موضوعات هذا الباب، وسيجد القارئ في كتابه((فهرس للفعل ومايشبهه، وفهرس للمنصوبات، وفهرس للتوابع،...)).(2) وتظهر عنوانات تلك الأبواب أهميَّة العامل ودوره في ترتيب وتبويب موضوعات الكتاب، ومن ذلك على سبيل المثال هذا الباب:((ما يَعْمَلُ فيه الفعلُ فينصبُ وهو حالٌ وقع فيه الفعلُ وليس بمفعولٍ.)).(3) وغير ذلك من عنوانات الكتاب التي تكرِّس لمفهوم العامل وتبني القواعدالنحويَّة على أساسه.

ثانياً- جعله الفعل أهمَّ العوامل: لذلك يولى سيبويه الفعل اهتماماً كبيراً في ترتيب موضوعات الكتاب وتفصيلها، ويتَّضح هذا من خلال هذه العنوانات :((الفاعل الذي لم يتعدَّه فعله إلى مفعولٍ والمفعولِ الذي لم يَتعدَّ إليه فِعْلُ فاعلٍ ولا يتعدَّى فعلهُ إلى مفعول آخَر))، ((الفاعل الذي يَتعدَّاه فعلُه إلى مفعولين، فإن شئت اقتصرتَ على المفعول الأوّل وإن شئت تعدّى إلى الثاني كما تعدى إلى الاول)).(4)وهكذا بقيَّة العنوانات الأخرى في الكتاب، وهذا ماجعل سيبويه يدرج باب (كان وأخواتها) في وسط أبواب الفعل، بل وتسميته بهذا الاسم: ((الفعل الذي يَتعدّى اسمَ الفاعل إلى اسم المفعول واسمُ الفاعل والمفعولِ فيه لشيءٍ واحدٍ)).(5) وذلك لأنها تشبه الفعل التام في بعض الخصائص، كما اتخذ شبه بعض الحروف للفعل في العمل سبباً للتبويب لها على هذا الأساس، وذلك في باب(إنَّ وأخواتها)، الذي ذكره باسم: ((هذا باب الحروفِ الخمسةِ التي تَعملُ في ما بعدها كعمل الفعل فيما بعده)).(6)كما كان قرب الشبه من الفعل في الخصائص مهماً عند سيبويه لدرجة أنَّه يؤخِّر (فعل التعجب) فيأتي به بعد باب(كان)، وذلك لأنَّ فعل التعجب أقل تصرفاً من(كان) فصارت كان أكثر شبهاً للفعل منه، وترتَّب على ذلك أسبقيَّتها في الترتيب، فجاءت قبل باب(التعجب)، الذي جاء بهذاالاسم: ((ما يَعْمَلُ عَمَلَ الفعل ولم يجْرِ مَجرى الفعل ولم يتمكَّن تَمكُّنَه)).(7) ويرجع ذلك إلى نقص تصرفه، فضلاً عن عدم جواز التقديم والتأخير معه، وهما أمران تفوقه بهما (كان)، حيث تتصرف تصرف الفعل، ويجوز التقديم والتأخير معها.

ثالثاً-إيراده بعض المسائل الإعماليَّة: حيث لا يكتفي سيبويه بإبراز دورالعامل وأهميَّته في الكلام فحسب، بل بتجاوزه إلى التفصيل في بعض مسائل الإعمال، التي قدتختلف من عامل لآخر فمن ذلك: إلغاء العامل وإعماله، مع ذكر مايمنع الإعمال أو يوجب العمل، ومنه منع (لام) الابتداء الفعلَ من العمل في معموله (المفعول) وذلك نحو قوله: ((ومن ذلك: قد علمتُ لعبدُ الله خيرٌ منك، فهذه اللامُ تَمنَعُ العملَ، كما تمنعُ ألفُ الاستفهامِ، لأنَّها إنَّما هي لامُ الابتداء، وإنما أَدخلتَ عليه علمتُ لتُؤكِّدَ وتجعلَه يقيناً قد علمتَه.)).(8) ومن مسائل الإعمال أيضاً ما يشترط من شروط لبعض أنواع العوامل كما في إعمال اسمي الفاعل والمفعول عند التثنية أوالجمع، حيث يُشْتَرَطُ فيهما إثبات النون،وذلك نحو قوله : ((وإذا ثنّيتَ أو جمعتَ فأَثبتَّ النونَ قلتَ: هذانِ الضاربانِ زيداً، وهؤلاء الضاربونَ الرجلَ، لا يكون فيه غيرُ هذا، لأنّ النون ثابتةٌ. )).(9) فإذا لم تثبت هذه النون في اسم الفاعل فإنّهَ يمتنع عن عمل(النصب) في معموله يقول سيبويه: ((فإنْ كففتَ النون جررتَ وصار الاسم داخلاً فيا لجارّ.)).(10)وبما أنَّ بعض العوامل قد تتداخل – فيما بينها – فيطلب معمولاً واحداً فتشترك في طلبه، فإنَّ سيبويه يُولِي هذه المسألة اهتمامه ويفصِّل فيها ويبيِّن أيَّ العوامل يعمل – من تلك العوامل المتنازعة – في المعمول وأيَّاً منها لايعمل فيه، يقول عن ذلك: ((تَحمل الاسمَ على الفعل الذي يَليه فالعاملُ في اللفظ أحدُ الفعلينِ، وأمّا في المعنى فقد يُعْلم أنَّ الأوّل قد وقع إلّا أنّه لا يُعْمَلُ في اسمٍ واحدٍ نصبٌ ورفعٌ، وإنّما كان الذي يليه أَوْلَى لقُربِ جواره وأنه لاينقُضُ معنًى.)).(11)وقد بيَّن هنا أنَّه إذا حدثت نازع بين عاملين في طلب معمول واحد فيجب إعمال الأخير منهما لقربه، ولاستحالة إعمالهما معاً في  المعمول إذا اختلفت جهتا اقتضائهما له بين الرفع والنصب.

     يتضح مما سبق أنَّ نظرية العامل كانت متينة الأركان وواضحة المعالم في كتاب سيبويه، فصنَّف كتابه وبوَّبه على أساس من مقتضياتها، وذلك وفق فكرة واضحة ومتكاملة، تبيَّن أثرها في اتباعه خطوات منهجية منظمة في عرض المسائل النحوية.

___________________________________

(1) سيبويه، عمرو بن عثمان، الكتاب، تـ: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط: 3، 1988م. ج: 1 ، ص:13.

(2) ناصف، علي النجدي، سيبويه إمام النحاة، عالم الكتب، القاهرة، ط: 2،1979م، ص: 177.

(3) سيبويه، الكتاب، ج ـ: 1، ص: 44.

(4) المصدر السابق، ج : 1، ص : (33-37).

(5) المصدر نفسه، ج : 1 ،ص : 45.

(6) نفسه، ج : 2، ص : 131.

(7) نفسه، ج : 1،ص: 72. 

(8) نفسه، ج : 1، ص: 236.

(9) نفسه، ج : 1، ص: 183.

(10) نفسه، ج : 1، ص: 184.

(11) نفسه، ج : 1، ص: (73 – 74).

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

الأدب التفاعليُّ بين مؤيِّديه ومعارضيه