اتجاهات البحث في تأصيل العامل النحويِّ

اتجاهات البحث في تأصيل العامل النحويِّ

أ. محمد إبراهيم محمد عمر همَّد محمود


 

بحث المحدثون في قضيَّة العامل النحويِّ، وقد تعَّرضوا في ذلك لمسألة أصالةالعامل النحويِّ، فاختلفت آراؤهم في ذلك، ويمكن إرجاع تلك الآراء إلى ثلاث اتجاهات هي:

الاتجاه الأول– اقتباس فكرة العمل: يرى أصحاب هذا الاتجاه أنَّ العامل النحويَّ فكرة مقتبسة من نحو لغات أخرى، ومن هؤلاء من يرى أنَّ الفكرة مقتبسة من نحو اللغة السريانية والتي كانت بدورها متأثِّرة بالنحو الإغريقيِّ (اليونانيِّ) ويرى أحدالدراسين ((تأثر العرب أولا بالصرف والنحو السرياني، والأمر لا يحتاج إلى تدليل، لأن وضع قواعد اللغة العربية وفلسفة العامل منها أسبق في الزمن من عصر الترجمة والاحتكاك بالفلسفة الإغريقية وبالعلل.)).(1) هنا يستدلُّ صاحب هذا الرأي بأنَّ فكرة العامل وفلسفته ما هي إلا اقتباس من النحو السريانيِّ، وليس أثراً من آثار المنطق الإغريقيِّ؛ وذلك لأنَّ نشأة النحو وفكرة العامل سبقت عصر الترجمة والنقل عن اليونانية. وهنالك من دعَّم هذا الرأي بأنَّ اللغة السريانيَّة كانت منتشرة في العراق الشمالي، فضلاً عن وجود مدارس لتعليم اللغة بها في تلك الأنحاء، بالإضافة إلى مابين العربيَّة والسريانيَّةمن شبه، فهما أختان في اللغة الساميَّة الأم ((فلعل أبا الأسود ومن جاء بعده من الذين اشتغلوا بعلم النحو اطلعوا أو بعضهم على نحو اللغة السريانية، واستفادوا مما فيه من تبويب وترتيب مصطلحات ونحوه.)).(2) ومن أصحاب هذا الاتجاه من عزا فكرة العامل إلى المنطق الأرسطيِّ ومقولاته العشرةو((المقولتانالأخيرتان]الفاعليَّةوالقابليَّة[مسؤولتان إلى حد كبير عن أهمية أساس من أسس النحو العربي ألا وهو نظرية العامل. فإذا كان الشيء إما فاعلاً وإما قابلاً فلماذا لا تكون الكلمات كذلك؟)).(3)وبهذا يرى صاحب هذا الرأي قيام فكرة العامل النحويِّ على مقولتي الفاعليَّة والقابليَّة، وهما مقولتان مستعارتان من المنطق الأرسطيِّ، ويترتب على ذلك عدم أصالة فكرة العمل النحويِّ،بل اقتباسها من النحو الإغريقيِّ.

الاتجاه الثاني- أصالة العامل النحوي: يرى أصحاب هذا الاتجاه أنَّ فكرة العمل النحويِّ فكرة أصيلة خاصَّة بالنحو العربي ولم تُقْتَبَسْ من أيِّ نحو آخر لغير العربيِّة، حيث يرى أحد الدارسين أنَّ ((كل من يقرأ كتاب سيبويه يرى رأي العين أن الخليل هو الذي ثبت أصول نظرية العوامل ومد فروعها وأحكمها إحكاما بحيث أخذ تصورتها التي ثبتت على مر العصور.)).(4)وفقاً لهذا الرأي فإنَّ فكرة العامل النحويِّ فكرة أصيلة قامت على أيدي نحاة العربيَّة، ولم تتسرب إليه من نحو لغات أخرى، ومن أصحاب هذا الاتجاه من يرى أن الفكرة أصيلة ولم تُقْتَبَسْ من نحو لغة أخرى، ولكن ذلك لا ينفي أن تكون قد تأثَّرت في نشأتها بالعلوم الإسلامية حيث أنَّ النحاة قد ((استعاروا من علم التوحيد مصطلحهم النحويِّ، فسموا القرينة اللفظية التي يصاحبها في الاسم أو في الفعل المضارع حركة خاصة، سموها عاملاً لفظيا، ثم قادهم هذا التأثر بعلم التوحيد إلى تصورات ليست لغوية النزعة، فزعموا أن هذا العامل مؤثر، وأن له قوة خاصة.)).(5)وبذلك يثبت صاحب هذا الرأي أصالة العامل النحوي مع الإقرار بتأثُّر فكرة العامل بالعلوم الإسلامية التي صحبتها في فترة نشأتها كعلم التوحيد فاستفادت منها، فكان ممَّا استفادته منه فكرة العمل النحويِّ.

الاتجاه الثالث- المزج بين الأصالة والاقتباس: يرى أصحاب هذا الاتجاه أنَّ النحو العربيَّ نتاج فكر لغويٍّ أصيل لم يُقْتَبَسْ من أيِّ نحو آخر للغة أخرى، ومع ذلك لاينفون تأثُّره بالمنطق في فترة لاحقة بعد نشأته، حيث ظهرت فيه الفلسفة الأرسطيَّة ومقولاتها وقضاياها ((ابتداء من القرن الثالث حين أصبح النحو ميدان مناقشات لا حد لها، ومجادلات هدفها الإقناع على أساس متطلبات العقل لا على أساس مقتضيات اللغة.)).(6)وهذا القول يتضمَّن أصالة فكرة العامل باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه علم النحوالعربيِّ، ويحتجُّ أحد الدارسين على أصالة الفكرة بقوله: ((استبعد أن يكون النحوي مثقفاً وذكياً إلى درجة يستوعب فيها فلسفة اليونان، ويكون مع ذلك غافلاً وذاهلاً عن هذا التجاذب بين الكلمات.)).(7)وبذلك تعتبر فكرة العامل عنده أبسط من أنْ تُقْتَبَسَ حيث أنَّ العلاقة بين الكلمات في التراكيب العربيَّة أمر يمكن ملاحظته بسهولة دون الحاجةإلى معرفة المنطق الأرسطيِّ. ومع ذلك لا ينفي أنْ تتأثَّر فكرة العامل فيما بعد بالفلسفة، إلا أنَّه امتزاج لايقدح في صفاء منشأ الفكرة. كما أنَّ تأثُّرا لفكرة بالعلوم الإسلامية–مثل علمي التوحيد والفقه- لا يقدحان في نسبتها إلى النحاة فهم من اخترعوها، وان كان لتلك العلوم تأثير على طريقة تفكيرهم، واستفادتهم من ذلك فيها.(8)

وبمناقشة تلك الاتجاهات يتضح عدم استقامة فكرة الاقتباس من النحو اليونانيِّ؛ وذلك لعدم وجود مؤلفات يونانيَّة تدرس في القرنيين الأول والثاني الهجريين حيث أنَّ أقدم ما تُرجِم من مؤلَّفات أرسطو لم يُنقَل إلى العربيَّة قبل منتصف القرن الثاني الهجري. أمَّا الاقتباس من النحو السريانيِّ بحجَّة اطلاع أبي الأسود على النحو السريانيِّ فلا يصبح دليلاً على الاقتباس إن صحَّ وذلك لأنَّ أباالأسود وما وضعه في النحو لا يمثِّل النحو كلَّه. وعلى هذا الأساس يكون القولب اقتباس العرب طريقة تبويب النحو من السريان نوعاً من قبيل التعميم الذي يرفضه المنطق العلميُّ، لأنَّ التشابه في ظاهرة معيَّنة من الظواهر بين لغتين لا يعني بالضرورة اقتباس إحداهما من الأخرى.(9) كما أنَّ نحو اللغة السريانيَّة يفتقر إلى وجود مبرِّر لفكرة العامل لعدم وجود علامات الإعراب في اللغة السريانيَّة.(10)

حيث ذكر بروكلمان أنَّ اللغات الساميَّة قد فقدت علامات الإعراب الكامل ولم تحتفظ بها إلا العربيَّة واللغة الأكَّاديَّة.

وأمَّا الاتجاه الثاني الذي يقول   بأصالة فكرة العامل النحويِّ، ويؤكِّد على علاقتها بالبيئة والعصر الذي نشأت فيه فهو يبدو متفقاً مع الاتجاه الثالث من حيث الأصالة، إلا أنَّ الأخير هو الأقرب لتفسير أصالة العامل النحويِّ، إذ لا ينفي عدم تأثَّر الفكرة في مرحلة لاحقة بالمنطق الأرسطيِّ، وهو أمر تظهره كتب النحاة المتأخرين بصورة واضحة ومن ذلك قول الكِيشيِّ في تعليل جعل الإعراب الذي يجلبه العامل في آخر الكلمة وليس في أولها أو وسطها، يقول عن ذلك: ((لما كانت الذات في الوجود الغيبي مالم تتم أجزاؤها لم تطرأ عليها الأحوال. وانسحب هذا الحكم على الوجود الذهني الدال عليه طبعا روعي في الوجود اللفظي الدال على الذهني وضعا هذا الترتيب فجعل الإعراب الدال على أحوال الذات بعد تمام أجزاء الكلمة الدالة على الذات،و كذلك في الوجود الكتابي الدال على اللفظ بالوضع، ولو جعل في الأول والأوسط لحصل قبل تمام الكلمة واختلت مراعاة هذه الحكمة.)).(11)هذا النصُّ على ما فيه من طول وتعقيد أراد صاحبه تعليل اختصاص آخر الكلمة المعربة بالتأثير الذي يجلبه العامل، فيجنح في ذلك إلى مصطلحات فلسفيَّة كالذات (الجوهر) والصورة الذهنيَّة (العرض)، ويستند في حجَّته على أنَّ الذات قبل اكتمالها في علم الغيب لا يمكن أن يلحقبها تغيير، فكذلك الحكم بالنسبة إلى الوجود الذهنيِّ يُراعَى فيه أيضاً حكم الوجود اللفظيِّ فلا يمكن أن يلحق تغيير بالكلمة قبل اكتمالها، وهذا لا يتأتَّى إلا بأنْ يكون الإعراب على الحرف الأخير حتى يكتمل وجود الكلمة ثم يطرأ عليها التغيير لاحقاً. ومثل هذه التعليلات هي التي يعتمد عليهاأصحاب المذهب الأول على قولهم باقتباس الفكرة من المنطق الأرسطيِّ، ولكن ذلك لا يصحُّ الاستدلال به على اقتباس الفكرة؛

لأنَّ مثل هذه التعليلات الفلسفيَّة لم تلحق بالفكرة عند نشأتها، وإنَّما كانت في فترة متأخرة نسبياً عن نشأة فكرة العامل النحويِّ من أساسها.

___________________________________

(1) فريحة،أنيس،نظريات في اللغة، دارا لكتاب اللبناني،بيروت،ط: 2، 1981م،ص: 121.

(2) برانق، محمد أحمد، النحو المنهجيِّ، مطبعة لجنة البيان العربيِّ، القاهرة، ( ط . د) ،( ت. د)،ص: 22.

(3) حسَّان، تمَّام، مناهج البحث في اللغة، مكتبة الأنجلو المصريَّة، القاهرة، (ط. د)،1990م،ص: 23.

 (4) ضيف،شوقي، تجديد النحو،دار المعارف،القاهرة، ط: 6، ( ت.د)،ص: 38.

(5) الحلوانيّ، محمد خير،أصول النحو العربيِّ، الناشر الأطلسيُّ، ( م. د )، ط: 2، 19983م، ص: 138.

(6) المهيريُّ، عبدالقادر، نظرات في التراث اللغويِّ العربيِّ، دار الغرب الإسلاميِّ، بيروت، ط: 1، 1993م،ص : 92.

(7) ابن حمزة، نظريَّة العامل في النحو العربي، ص: 154.

(8) المرجع السابق،ص : (155- 156) .

(9) دمشقيَّة، عفيف، تجديد النحو العربيِّ، معهد الإنماء العربيِّ، بيروت، ( ط.د)،1981م،ص: 22.

(10) بروكلمان،كارل، فقه اللغات الساميَّة، تــ: رمضان عبد التواب، جامعة الرياض، الرياض، (ط. د)، 1977م،ص: (100 – 101).

 (11) الكِيشيِّ، محمد بن أحمد، الإرشاد إلى علم الإعراب، تــ: عبد الله علي الحسين ومحمد سالم العميريّ، جامعة أم القرى، مكةالمكرمة، ( ط. د) ، ( ت. د) ، ص: 79.

  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

الأدب التفاعليُّ بين مؤيِّديه ومعارضيه