خصائص نظرية العامل النحوي(3) (خاصِّيَّة الشمول)

 

خصائص نظرية العامل النحوي(3)


(خاصِّيَّة الشمول)

أ. محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود

المقصود بشمول فكرة العامل النحويِّ:

      يقصد بالشمول في اللغة: الإحاطة بالأمر ومنه: ((شَمَلَهُمْا لأمر يَشْمُلُه مشَمْلاً وشُمُولاً وشَمِلَهُمْ يَشْمَلُهُمْ شَمْلاً وشَمُولاً: عَمَّهُمْ. واشْتَمَل الأمر: أحَاطَ بِه.)).(1) ويقصد بالشمول في فكرة العامل النحويّ إحاطة الفكرة بكل التغيرات التي تطر على أواخر الكلمات في ثنايا التركيب، وسيتمُّ التطرُّق في هذا المقال إلى بعض من جوانب الشمول في الفكرة.

حصر مواضع زيادة العامل:

     يفسر النحاة بعض التراكيب بزيادة العامل فيها، وذلك استثناء على  مؤشرات تدل على زيادته في التركيب لغرض معنوي هو التوكيد، ويلاحظ في أقوال النحاة أن العوامل التي يحكم بزيادتها هي عوامل محددة تتمثَّل في: كان، ومِنْ، والباء، واللام، والكاف، وإنْ، وأنْ، ولكل عامل من هذه العوامل مواضع محدَّدة يُحْكَم فيها بزيادته في التركيب، وذلك كما يلي:

أولاً-زيادة كان الناقصة:

يحكم بزيادتها إذا وقعت بين (ما) التعجُّبيَّة وفعل التعجُّب، نحو: مَا كَانَ أَحْسَنَ زيداً.(2) وقد فصلت (كان) في هذا المثال بين (ما) التعجُّبيَّة وفعل التعجُّب(أَحْسَنَ).

وتزاد أيضاً بين الصفة والموصوف، نحو قول الفرزدق :

فكَيْفَ إذا رَأيْتُ دِيَارَ قَوْمٍ   [الوافر]

                                  وَجِيْرانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ(3)

حيث فصلت (كان) بين الصفة (كِرَامِ) وموصوفها (جِيْرانٍ) فحُكِم بزيادتها. ويحكم بزيادة (كان) إذا وقعت بين (إنَّ) واسمها، نحو: إنَّ أفضلَهم كان زيداً.(4)حيث فصلت (كان) بين (إنَّ) واسمها(زيداً)، فحُكِم بزيادتها. وكذلك تزاد إذا وقعت بين المبتدأ والخبر، وذلك نحو قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أوَّل نبي كان آدم.)).(5)وبين الفعل ونائب الفاعل  وذلك كما في قول القائل: ((ولدت فاطمة بنت الخُرْشُب الكملة من بني عبس،(*)لم يُوْجَدْ كاَنَ مثلُهم.)). حيث فصلت (كان) بين الفعل المبني للمجهول(يُوْجَدْ) ونائب الفاعل(مثلُهم)، فحُكِم بزيادتها. كما يُحْكَم بزيادتها شذوذاً إذا وقعت بين الجار والمجرور،(6) وذلك كما في قول الشاعر:

جِيادُ بني أبي بكر تَسَامَى [الوافر]

                                     على كان المسوَّمةِ العِرابِ(7)

حيث فصلت (كان) بين حرف الجرِّ(على) والمجرور(المسوَّمةِ)،فحُكِم بزيادتها.

ويتضح مما سبق ذكره أنَّ (كان) تزاد في مواضع بعينها هي التي تمَّ ذكرها، وفيها تفصل بين متلازمين كالمسند والمسند إليه، والصفة والموصوف، والجارِّ والمجرور، وهذا يعني أنَّ قول النحاة بزيادتها كان عن تتبُّع وحصر لتلك المواقع التي ترد فيها زائدة.

ثانياً- زيادة حرف الجر (الباء):  

ويزاد في المفعول به نحو قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(8) وتزاد فيه مقدَّماً أيضاً، نحو قوله تعالى: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}  (9)ويزاد في  المرفوع كالفاعل نحو قوله تعالى: {كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (10) والمبتدأ نحو قولك: بحسبِكَ زيدٌ.(11) ففي هذه الأمثلة يُعْرَبُ ما قبل حرف الجرِّ على حسب موقعه من التركيب وإنْ كان مجروراً في الظاهر، فهو مفعول به في الآيتين الأولى والثانية، وفاعل في الآية الثالثة، ومبتدأ في الجملة الأخيرة، وكذلك الأمر بالنسبة لحروف الجرِّ الأخرى التي ترد زائدة في التركيب.

ثالثاً- زيادة (أنْ):

وتقع زائدة  بعد لمَّا التوقيتيَّة، نحو قوله تعالى:

{ وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} (12)وبين لو وفعل القسم، كما في قول الشاعر:

فأُقْسِمُ أَنْ لَوِ التَقيْنا وأنْتُمْ                 [الطويل]

لكان لكمْ  يومٌ من الشرِّ مُظْلِمُ(13)

وتقع (أنْ) زائدة بين الكاف ومجرورها، وذلك كما في قول الشاعر:

ويَوماً توافينا بوجهٍ مقسَّمٍ[الطويل]

كأن ظبيةٍ تعطو إلى وارق السَّلَمْ(14)

وقد وردت (أنْ) في هذا البيت زائدة بين حرف الجرِّ (الكاف) ومجرورها (ظبيه) في رواية من يجرُّ (ظبية) في هذا البيت. كما تقع (أنْ) زائدة بعد (إذا) وذلك كما في قول الشاعر:

فَأمْهَلَه حَتَّى إذا أنْ كَأنَّه   [الطويل]

مُعَاطِي يَدٍ في لجَّة الماءِ غَامرُ(15)

وقد وقعت(أنْ) زائدة بعد (إذا) في هذا البيت.(16)ولم تعمل(أنْ) الزائدة لأنَّها مختصَّة بالأفعال وفي هذه الأمثلة دخلت في غير الأفعال فلم تعمل.

حصر مواضع حذف العامل:

يحلل النحاة بعض الجمل بحذف العامل، فيقدرون ذلك  العامل المحذوف حتى يكتمل التركيب، وهذه العوامل التي تحذف– عند النحاة – هي عوامل محدَّدة، وكذلك مواضع حذف تلك العوامل هي مواضع بعينها، وذلك كما يلي:

أولاً – حذف الفعل:

ويحذف في  النداء كما في قولك: يا عبدَ الله. وتقديره: يا أريدُ أو أعني عبدَ الله.(16)  وهو محذوف لكثرة الاستعمال، كما يُحْذَفُ الفعل في أسلوب التحذير نحو: إيَّاكَ والأسدَ. والتقدير: اتقِ نفسَك أن تتعرضَ للأسدِ. وكذلك يُحْذَفُ الفعل في أسلوب الاشتغال، وهو المُسمَّى بالمُضْمَر على شريطة التفسير. وذلك كما في قولك: زيداً ضَرَبْتُه. فالتقدير: ضَربْتُ زيداً ضَرَبْتُه، إلَّا أنَّه لا يظهر استغناء عنه بما يُفسِّره (ضَرَبْتُه).(17)

ثانياً– حذف (أنْ) الناصبة للفعل المضارع:

وتقدَّر بعد حتَّى، نحو: سِرْتُ حتَّى أدخلَها. وبعد (لام) الجحود،نحو: جِئْتُك لتُكرمَني. وبعد أو بمعنى (إلى) أو (إلَّا)، وذلك نحو: لألزمنَّك أو تعطيَنِي حَقِّي. وبعد (واو) الصرف، نحو: لا تأكلْ السمكَ وتشربَ اللبنَ. وفي الجواب بــ(الفاء) في النهي،والنفي،والاستفهام،والتمنِّي،والعرض. ومثال النهي: قوله تعالى:{ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}(18) والنفي مثل: ما تأتيْنَا فتحدِّثَنا. والاستفهام مثل: أينَ بيتك فأزورَكَ. والتمنِّي مثل: ليتَ لي مالاً فأنفقَه. والعرض مثل: ألا تنزلَ فتصيب خبراً. وضابط ذلك كلُّه أنَّه يصحُّ فيه معنى إنْ فعلْتَ فعلْتُ.(19)

ثالثاً- حذف(إنْ)الشرطية وفعلها:

 وذلك في جواب الطلب كالأمر نحو: زرنِي أُكرمْكَ. والتقدير: إنْ تزرنِي أكرمْكَ.والاستفهام نحو: أينَ بيتك أزَرْكَ. والتقدير:إنْ أعرفْ بيتك أزرْكَ. والتمنِّي نحو: ليتَ لي مالاً أنفقْهُ. والتقدير:إنْ كانَ لي مالاً أنفقْهُ. والعرض نحو: ألا تنزل تصبْ خيراً. والتقدير: إنْ تنزلْ تصبْ خيراً. والنهي إذا صحَّ وضع (إنْ لا تفعل) موضع النهي،نحولا تفعل شراً يكن خيراً لك.(20)

رابعاً– حذف حرفا لجرِّ (رُبَّ):

 ويُحذف إذا وقع بعد الواو، وذلك كما في قول الراجز:

وقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي المُخْتَرَقَنْ(21)

حيث حُذِفَ الحرف (رُبَّ) بعد الواو، وبقى الاسم(قائمِ) مجروراً بعد حذفها. كما يُحذَفُ هذا الحرف بعد(الفاء) نحو قول امرئ القيس:

فمثلِك حُبْلى قدْ طرَقتُ ومُرضعٌ [الطويل]

فألهيتُها عن ذي تمائم محوَلِ(22)

حيث حُذِفَ الحرف (رُبَّ) بعد (الفاء) وبقى ما بعدها(فمثلِك) مجروراً بعد حذفها، كما تُحْذَفُ (رُبَّ)بعد (بَلْ) كما في قول الراجز:

بَلْ  بَلَدٍ ذِي صُعُدٍ وأصْبَابْ(23)

حيث حذف الحرف (رُبَّ) بعد (بلْ) وبقى الاسم(بلدٍ) مجروراً بعد حذفها.(24)

     يتضح مما سبق أنَّ العوامل التي يقول النحاة بحذفها هي عوامل محدَّدة، ويُعدُّ تحديدها مظهراً من مظاهر شمول فكرة العامل في تحليل الجملة. كما أنَّ  هذه العوامل تقدر لضرورة تركيبيَّة تتمثل في عدم ذكر المسند (الفعل) في الجملة كما في أسلوب النداء، والتحذير، والإغراء، والاشتغال. كما يكون التقدير أحياناً لتوجيه العلامة الإعرابيَّة عندما لا يظهر ما يبرِّر ظهورها في الكلمة، وذلك كما في الأفعال المضارعة التي تأتي منصوبة أو مجزومة ولا ناصباً أو جازماً ظاهر في الكلام، أوفي الأسماء التي تأتي مجرورة ولا جارَّ ظاهر في الكلام مثل المجرور بـــ(رُبَّ)المحذوفة بعد (الواو)، أو(الفاء)، أو(بل).

تفسير الأوجه الإعرابيَّة المُحْتَمَلَة للكلمة:

      يكون لبعض الكلمات أكثر من وجه إعرابيٍّ في التركيب الواحد، ولفكرة العامل القدرة على تحليل هذه الأوجه المختلفة وتفسيرها بما يناسبها من العوامل، ومن ذلك:

أولاً-رفع الفعل المضارع ونصبه بعد (حتَّى):

 وهو يأتي منصوباً بعدها وذلك كما فيقولك: سرتُ حتَّى أدخلَها، كما يأتي مرفوعاً أيضاً كقولك: سرتُ حتَّى أدخلُها. فيكون الفعل (أدخلَها) في الجملة الأولى منصوباً بأنْ مضمرة بعد حتَّى، و(أنْ)ومصدرها في محلِّ جرٍّ بـــ( حتَّى)،والتقدير سرتُ حتَّى دخولها، ويكون في الثانية مرفوعاً على الاستئناف أي هو في جملة قائمة بذاتها.(25)

ثانياً– رفع الفعل المضارع أو نصبه أو جزمه بعد (الواو):

 حيث يأتي مجزوماً، نحو قولك: لا تأكلْ السمكَ وتشربْ اللبنَ. ويأتي منصوباً (وتشربَ اللبنَ)، كما يأتي مرفوعاً (وتشربُ اللبنَ). فيفسِّر النحاة الجزم بـأنَّ(الواو)حرف عطف و(تشربْ) معطوف على مجزوم (تأكلْ) فهو مجزوم ممثله. ويكون المعنى النهي عنهما. ويُفسَّر النصب بأنَّ(الواو) للمعيَّة والفعل (تشربَ) منصوب بــــ(أنْ) مُضْمَرة بعد(واو) المعيَّة، والمعنى النهي عن الجمع بينهما. ويُفسَّر الرفع بأنَّ(الواو) حرف عطف  وهي للاستئناف عطف جملة على جملة،والمعنى ومشروبك اللبنُ أكلتَ السمكَ أولمْ تأكلْه.(26)

ثالثاً– جرُّ الاسم ورفعه بعد ( حتَّى):

 وقد يأتي ما بعدها مجروراً نحو قولك: لقيتُ القومَ حتَّى عبدِ اللهِ لقيتُه. كما يأتي ما بعدها مرفوعاً نحو قولك: لقيتُ القومَ حتَّى عبدُ اللهِ لقيتُه. فيُفسَّر الجرُّ بأنَّ (حتَّى) حرف جرٍّ و(عبدِ اللهِ) مجرور به. أمَّا الرفع فباعتبار(حتَّى) حرف عطف و(عبدُ اللهِ) مبتدأ،و( لقيتُه) خبره، و(حتَّى) عطفت جملة (عبدُ الله لقيتُه) على جملة (لقيتُ القومَ).(27)

رابعاً– نصب الاسم ورفعه:

 وذلك كما فيرفع (منطلق) أو نصبه في هذه الجملة: هذا زيدٌ منطلقٌ. فالنصب على أنَّه حال من (زيد). أمَّا الرفع فعلى أنَّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذا) أو (هو)،أو هو خبر لــــ(هذا) المذكور في الجملة، فيشترك مع زيد فيكون هذا خبر الـــ(هذا). كما فيقولك:هذا حلوٌ حامضٌ.(28)

خامساً- نصب المعطوف على خبر(ليس) وجرِّه:

 وذلك إذا كان خبرها مقترناً بحرف الجرِّ الزائد(الباء)،وذلك نحو: ليس زيدٌ بجبانٍ ولا بخيلاً. فيجوز في (بخيل) الجرُّ على الإشراك بينهما فيه، والنصب عطفاً على محلِّ خبر (ليس).(29)

سادساً- رفع الاسم أو نصبه أو جرُّه:

 وذلك في معمول الصفة المشبَّهة باسم الفاعل، حيث يأتي مرفوعاً نحو: زيدٌ كريمٌ حسنٌ وجهُه، ومنصوباً نحو: زيدٌ كريمٌ حسنٌ وجهاً، أو(الوجهَ)،ومجروراً نحو: زيدٌ كريمٌ حسنٌ الوجهِ. فهو مرفوع على أنَّه فاعل، ومنصوب على التمييز عند تنكيره، وعلى شبه المفعوليَّة عند تعريفه، ومجرور على أنَّه مضاف إليه.(30)

    يتضح أنَّ هذه الأوجه الإعرابيَّة التي سبق ذكرها قد وردت مسموعة عن العرب، وكان دور النحاة هو التقعيد لها على أساس العامل النحويِّ، وهذا يدلُّ على شمول فكرة العامل، وهو شمول لا يتوفَّر في النظريات الأخرى، والتي لم تضع تفسيراً يوضِّح هذه الأوجه الإعرابيَّة المختلفة أو يقعِّد لها، ولم يتناول إبراهيم مصطفى هذه الأوجه الإعرابيَّة في نظريَّته، باستثناء حديثه عن اسم (إنَّ).(31) وحديثه عن إعراب الاسم بعد (لا)، وإلغاء ظنَّ وإعمالها، وأسلوب الاشتغال، والمفعول معه.(32)

     وكذلك كان الأمر عند مهديٍّ المخزوميِّ، إذ لم يشرح هذه الأوجه المختلفة على الرغم من اهتمامه بتوضيح إعراب الفعل المضارع.(33)أمَّا تمَّام حسَّان فقد استخدم مثالاً نحويَّاً يستخدمه النحاة لتعدد أوجه إعراب الفعل المضارع ألا وهو: لا تأكلْ السمكَ وتشرب اللبنَ، وقد اكتفى بتوضيح حالة النصب فيه بأنَّها تندرج تحت قرينة المعيَّة،(34)ولم يهتم بتوضيح حالتي الرفع والجزم.

          ويتضح من ذلك كلِّه أنَّ فكرة العامل النحويِّ تتفوَّق في هذا الجانب على النظريَّات الأخرى بتفسيرها لكلِّ الأوجه الإعرابيَّة المُحْتَمَلَة للكلمة في التركيب.

توظيف ما لا يعمل في خدمة العامل:

       إذ لم تنحصر جهود النحاة في دراسة العامل فحسب، بل كانت تتعدَّاه أحياناً إلى الاهتمام بما ليس له علاقة مباشرة بالعامل، والاستفادة من ذلك في توضيح الإعمال النحويِّ، وذلك نحو الاهتمام بالأدوات غير العاملة، أو بمَبْنَى الكلمة، أو بمعناها، وبيان ما لذلك من فوائد في خدمة فكرة العامل النحويِّ، ويمكن توضيح ذلك كما يلي:

أولاً- توظيف الأدوات غير العاملة:

 حيث يُستدلُّ بها على وجوب نصب الاسم في أسلوب الاشتغال إذا وقع بعد أدوات معيَّنة مثل: هلا، ولو، ولولا، ولوما. وذلك لأنَّ هذه الأدوات لا يقع بعدها إلا الفعل، فلا يجوز رفع الاسم بعدها كما قال سيبويه ذلك.(35)وإذا وقع الاسم بعد إذا الفجائيَّة وأمَّا الابتدائيَّة فيجب فيه الرفع، لأنَّ هذه الأدوات لا يقع بعدها إلا مبتدأ. وذلك نحو: خرجْتُ فإذا عبدُ الله يضربه عمرو، وأمَّا عمرو فقد مررت به.(36)ويتضح من هذا أنَّ النحاة استفادوا من وجود هذه الأدوات في تحليل الجملة على أساس من فكرة العامل على الرغم من أنَّ هذه الأدوات لا ينسب إليها عمل في التركيب.

ثانياً-  توظيف مَبْنَى الكلمة:

 وذلك كما في الفعل اللازم أو القاصر، لأنَّه يقتصر عمله على رفع الفاعل ولا يتعداه إلى المفعول بنفسه، وبما أنَّ فكرة التعدي واللزوم فكرة إعماليَّة بالأساس، إلا أنَّها لا تخلو من جانب صرفيٍّ يوظَّف في خدمة العامل النحويِّ، وتنحصر الأفعال اللازمة في أوزان صرفيَّة محدَّدة وهي: (فعل) نحو ظرف،و(فعل) التي وصفها على (فعيل) نحو ذلَّ،و(فعل) التي وصفها على (فعيل) نحو قوِيَ،و(أفعل) بمعنى صار نحو أغدَّ البعير، إذا صار ذا غدَّة،و(فعلل) نحو اقشعرَّ، (افوعلَّ) نحو اكوهدَّ الفرع، إذا ارتعد،و(افعنلل) بزيادة إحدى اللامين نحو اقعنسس البعير، إذا أبى الانقياد،و(افعنلل) بأصالة اللامين نحو احرنجم بمعنى اجتمع،و(افعنلى) نحو احرنبى الديك،إذا انتفش،و(استفعل) نحو استحجر الطين، و(انفعل) نحو انطلق.(37)فكلُّ هذه الأوزان يأتي معها الفعل لازماً، وهذا اللزوم يمكن التعرُّف عليه بها،كما يمكن التعرُّف عليه عن طريق المعنى.

ثالثاً- توظيف معنى الكلمة:

 وذلك عندما يكون مَبْنَى الفعل يدلُّ على اللزوم مثلاً وجاء متعدِّياً في النصِّ أو الكلام، أو العكس، على أني كون للفعل مرادف يشاركه في المعنى ويخالفه في المَبْنَى، فيحمل الأوَّل على الثاني في المعنى وهو ما يُعْرَف بالتضمين وهو:((إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه.)).(38) ومن ذلك قوله تعالى:{ ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ} (39)في هذه الآية الكريمة تعدَّى الفعل(تعزموا) إلى المفعول به (عقدةَ) على الرغم من أنَّه فعل لازم، ولكنَّه تعدَّى هنا لتضمّنه معنى (تقطعوا)(40)وقيل لتضمّنه معنى (تنووا)، أو (تصححوا)، أو(توجبوا)، أو(تباشروا).(41) وكلُّ هذه المعاني التي ذُكِرت تدلُّ على أنَّ الفعل اللازم(تعزموا) لتضمّنه معنى فعل متعدٍّ، فتعدَّى مثله.

وتأتي الجملة محكيَّة بعد القول، إلا أنَّها قد تأتي ويعمل الفعل(قالَ) عمل(ظنَّ)، إذا تضمَّن معناه،وذلك كما في قول الشاعر:

أَمَّا الرَّحِيلُ فَدُونَ بَعْدِ غَدٍ   [الطويل]

فَمَتَى تَقُولُ الدَّارَ تَجْمَعُنَا(42)

وقد جاء الفعل(تَقُولُ) متضمِّناً معنى الفعل(تظنُّ)،لذلك نصب المفعولين(الدارَ) وجملة(تجمعنا) في محل نصب المفعول الثاني.(43) ويتضح مما سبق ذكره أنَّ النحاة كانوا يهتمُّون بمعنى الفعل، ويسخرونه لخدمة فكرة العامل النحويِّ.

ما يتعلَّق به شبه الجملة:

     وشبه الجملة إمَّا حرف جرٍّ ومجرور هو إمَّا ظرف، وهما يتعلَّقان بالفعل،أ وبما يشبهه، أو بما يؤوَّل بما يشبهه، أو ما يشير إلى معناه، أو بتقديره عندما لا يكون بين هؤلاء الأربعة، وتفصيل هذا كما يلي:

أولاً- التعلَّق بالفعل:

وذلك نحو قوله تعالى:{ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (44) في هذه الآية الكريمة تعلَّق الجارُّ والمجرور (عليهم) بالفعل(أنعمْتَ).

ثانياً- التعلَّق بما يشبه الفعل:

وذلك كما في قوله تعالى:{ غير المغضوب عليهم } (45) في هذه الآية الكريمة تعلَّق الجارُّ والمجرور(عليهم) بما يشبه الفعل(اسم المفعول)(المغضوبِ).

ثالثاً- التعلَّق بما يُؤول بما يشبه الفعل:

كما قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ} (46)في تلك الآية  الكريمة تعلَّق كلٍّ من الجارُّ والمجرور (في السماءِ) و(في الأرضِ) بـــــــ(إله)، وهو يؤوَّل بما يشبه الفعل،أي بمعنى معبود.(47)

رابعاً- التعلَّق بما فيه معنى الفعل:

وذلك كما فيقول الراجز:

أنَا أبُو المُنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَانِ(48)

فتعلَّق(بعضَ) بالاسم(أبي المنهال) لما فيه من معنى قولك جواد. وهذا النوع من التعلَّق يطلق عليه أيضاً التعلَّق بما فيه رائحة الأفعال،أي معناه.(49)ولا يتعلَّق من حروف الجرِّ ما يلي: (الباء) الزائدة،وذلك نحو قوله تعالى: { كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا } (50)وذلك لأنَّ مجرورها في اللفظ فاعل في التركيب، وكذلك (مِنْ) الزائدة، وذلك نحو قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (51)لأن مجرورها في اللفظ ومبتدأ في التركيب،و(لعلَّ) في لغة مَنْ يجرُّ بها،و(لولا) في من قال: لولاه، ولولاك، ولولاي، لأنَّ ما بعد هذه الحروف مبتدأ في التركيب، و(رُبَّ) نحو: رُبَّ رجلٍ صالحٍ لقيتُ. لأنّ مجرورها في اللفظ مفعول به في التركيب، بالإضافة إلى حروف الاستثناء(خلا، وعدا، وحاشا) إذا جررن.(52)

     يتضح مما سبق  أنَّ بحث مسألة تعلُّق الجارِّ والمجرور يُمثل جانباً من جوانب الشمول في فكرة العامل، حيث يُظهر التحليل التامُّ لكلِّ مكوِّنات الجملة، وهو أمر تتفوَّق فيه فكرة العامل على النظريَّات البديلة مثل نظريتي إبراهيم مصطفى ومهديٍّ المخزوميِّ، إذ تكتفي النظريَّتان ببيان أنَّ الكسرة علم الإضافة دون التطرُّق إلى علاقة هذا المجرور بغيره من أجزاء الجملة، أمَّا نظريَّة تضافر القرائن لتمَّام حسَّان والتي توافق فكرة العامل النحوي في تعلُّق الجارِّ والمجرور إلَّا أنها لا تناقش عدم تعلُّق حرف الجرِّ الزائد، وبذلك تكون فكرة العامل شاملة في طريقة التحليل، فهي تبحث هذه المسألة في إطار متكامل ألا وهو إطار الجملة فتبيِّن علاقة الجارِّ والمجرور بالمُسْند، كما تحكم بعدم تعلُّقه إذا كان للمجرور به موضع تركيبيٌّ في الجملة.

       بعد تلك السياحة القصيرة في رحاب خاصية الشمول في نظرية العامل يتضح أنَّ النظرية قد أحاطت إحاطة تامة  بكل التغيرات التي تطر على أواخر الكلمات في ثنايا التركيب، مع استنباط قوانين وتفسيرات توضح تلك التغيرات، بالإضافة إلى رصد كل ما له علاقة بوجود تلك التغيرات على أواخر الكلمات، فضلاً عن تفسير تلك التغيرات في إطار جامع لها هو الجملة، مع مراعاة تفسير العلاقات التركيبية بين أجزئها المختلفة.

 

___________________________________

(1) ابن منظور معجم لسان العرب،جــــ: 11،مادة (شمل).

(2) سيبويه، الكتاب،جـــــ: 1،ص: 37.

(3) الفرزدق، ديوانه، ص: 597. وفيه برواية ( رأيتُ) بدلاً من ( رأيتَ) و(قومي)بدلاً من ( قوم).

(4) سيبويه،الكتاب،جـ : 2،ص: 153.

(5) ابن حنبل، أحمد بن محمد، المُسْنَد، تــــ: أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، ط: 1، 1995م،

(*) الكلمة هم بن وزياد العبسيّ، وأمُّهم فاطمة بنت الخُرْشُب الأنماريَّة، وقد ولدت ربيعاً وعمارة وأنساً، وكلُّ واحد منهم أبو قبيلة.

(6) الزمخشريُّ، المُفَصَّل،ص: 266.

(7) البيت مجهول قائله. انظر: الرجع السابق، ص: 265. والجياد: جمع جواد، وهو الفرس النفيس. وتسامى أصلها تتسامى بتاءين حذفت إحداهما. والمسوَّمة: الخيل التي لها علامة .

(8) سورة الرعد: الآية: 43.

(9) سورة البقرة: الآية: 189.

(10) سورة القلم: الآية: 6.

(11) الزمخشريُّ، المُفَصَّل، ص: 290.

(12) سورة العنكبوت:الآية: 33.

(13) البيت للمُسيَّب بن علس. وهو من شواهد سيبويه. انظر: سيبويه،الكتاب، جـ 3،ص: 107. والمعنى لو التقينا بكم في الحرب لأظلم نهاركم فصار ليلاً من الشرِّ.

(14) البيت لباعث بن صريم. وهو من شواهد الكتاب. انظر: سيبويه، الكتاب، جــ: 2، ص: 134. ولزيد بن أرقم في الإنصاف.انظر: الأنباريّ، الإنصاف  في مسائل الخلاف،جـ: 1، ص: 164.توافينا: تأتينا. والمقسَّم: الجميل. تعطو: تتناول أوراق الشجر.

(15) ابن حجر، أوس، ديوانه، تــــــ: محمد يوسف نجم، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، (ط. د)، 1980م، ص: 71. وفيه برواية(جمَّة) بدلاً من(لجَّة)، و(غارفُ) بدلاً من (غامرُ). والبيت في وصف صيد، تركه الصياد حتى اطمأنَّ وصار من الماء بمنزلة المعاطي الذي يتناول فيه.

(16) ابن هشام الأنصاريُّ،مغني اللبيب،جـــــ: 1،ص: (31– 32).0

(17) الزمخشريُّ،المُفَصَّل،ص: (61 – 71).

(18) سورة طه: الآية: 81.

(19) المطرزيُّ، المصباح، ص: (100- 101).

(20) المرجع السابق، ص: 104.

(21) ابن العجَّاج، ديوانه، ص: 104. القاتم: المسودُّ. والأعماق: ما بَعُدَ من الصحراء. الخاوي: الخالي. والمخترق: الريح.

 (22) امرؤ القيس، ديوانه،ص: 113.طرقتُ: جئتُ . والتمائم: التعاويذ. والمحوَل: الطفل الرضيع الذي  له حول. والمعنى: أنَّ الحامل والمرضع لا ترغبان في الرجال وترغبان فيَّ لجمالي ومزاياي.

(23) ابن العجَّاج، ديوانه، ص: 6. البلد: القفر. والصُعُد: جمع صعود، وهو المرتفع من الأرض. والأصْباب: جمع صبَب، وهو المنحدر من الأرض.

(24) المطرزيُّ، المصباح،ص: (155- 157).

(25) ابن هشام الأنصاريّ، مغني اللبيب، جــــ: 1،ص: 136.

(26) ابن مالك، شرح التسهيل، جــــ: 4، ص: 36.

(27) سيبويه، الكتاب، جـــ: 1، ص: 97.

(28) سيبويه، الكتاب، جـــــ: 2، ص: (78 – 83).

(29) المصدر السابق، جــــ: 1، ص: (66- 67).

(30) الزمخشريُّ، المُفَصَّل، ص: 225.

(31) إبراهيم مصطفى، إحياء النحو، ص: 52.

(32) المصدر السابق، ص: (84- 98).

(33) المخزوميُّ، في النحو العربيِّ نقد وتوجيه، ص: (127- 140).

(34) تمام حسَّان، اللغة العربيَّة مبناها ومعناها، ص: 196.

(35) سيبويه، الكتاب، جــــ: 1،ص: 98.

(36) الزمخشريُّ، المُفصَّل، ص: 72.

(37) ابن هشام الأنصاريُّ، مغني اللبيب،جــ: 2،ص: (573- 575).

(38)الكفويُّ، الكليَّات، ص: 266.

(39) سورة البقرة: الآية: 235.

(40)الزمخشريُّ، تفسير الكشَّاف، ص: 138.

(41)أبو حيَّان الأندلسيُّ، تفسير البحر المحيط،جـــ: 2،ص: 365.

(42)ابن أبي ربيعة، ديوانه، ص: 393. تقول: بمعنى تظنُّ. والمعنى أيُّ وقت تظنُّ تجمعنا الدار.

(43) ابن هشام الأنصاريُّ، عبد الله بن جمال الدين، أوضح المسالك إلى ألفيَّة ابن مالك،تـــــ: محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصريَّة، بيروت، ( ط. د)، ( ت. د)، جـــ: 2،ص: 74.

(44) سورة الفاتحة: الآية: 7.

(45) سورة الفاتحة: الآية: 7.

(46) سورة الزخرف: الآية: 84.

(47) ابن هشام الأنصاريُّ، مغني اللبيب، جــ: 2،ص: 484.

(48) الرجز مجهول القائل،

(49) ابن هشام الأنصاريّ، مغني اللبيب، جــ: 2، ص: 485.

(50) سورة الرعد: الآية: 43.

(51) سورة فاطر: الآية: 3.

(52) الأشمونيُّ، شرح الأشمونيِّ على ألفيَّة ابن مالك،جـــ: 3،ص: (362- 363).

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3) (نظريَّة تضافر القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)