الانحراف المنهجي في كتاب (جناية البخاري) لزكريا أوزون (2)
الانحراف
المنهجي في كتاب (جناية البخاري) لزكريا أوزون
(2)
أ.
محمَّد إبراهيم محمَّد عمر همَّد محمود
مقدِّمة:
زكريا أوزون مهندس سوريّ الجنسيَّة، وهو كاتب وباحث في الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة،
وله كتب في هذا المجال ومنها: كتاب (جناية سيبويه) ويهتم بنقد النحو العربيِّ، وكتاب
(جناية الشافعيِّ) ويهتم بنقد الفقه الإسلامي، وكتاب(جناية البخاريِّ) ويهتم بنقد كتب
الحديث النبويِّ، وهو موضوعنا في هذا المقال، وهو المقال الثاني والأخير في مناقشة
ما جاء في هذا الكتاب.
تمهيد:
تتطلب الكتابة العلميِّة الالتزام بقواعد
البحث العلمي، وذلك بغرض الوصول إلى نتائج
واقعيَّة وموضوعيَّة خالية من التحيز، والإخلال بأيٍّ من تلك القواعد يقدح
في القيمة العلميَّة للبحث، ويشكك في النتائج التي توصل إليها الباحث، وسيلاحظ
القارئ خللاً في المنهجية التي اتبعها زكريا أوزون في كتابه، ومن ذلك:
استبعاد بعض الأدلة التي تناقض ما يرمي إليه:
عندما يجد أوزون بعض الأدلة التي يعتدَّ بها
تتعارض مع ما يريده ؛ فإنّه يغضُّ الطرف عنها، ولا يشير إليها ولو إشارة خاطفة، فضلاً
عن مناقشتها والرد عليها، ومن ذلك أنَّه عندما يتحدث عن مقام النبوة على حسب تعريفه
لها فإنه يجعل من النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف باجتهاده حسب المعطيات والأرضية المتوفرة،(1)
وهو بذلك يحاول إقناع القارئ بأن مقام النبوة ليس مقام تكليف، وإنما هو مقام
اجتهاد قابل للتصحيح، ولذلك لا يذكر شيئاً عن هذه الآيات: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (2) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ
عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ
وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ
بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ
فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (3)
وقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(4)
وقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(4)
كل هذه الآيات ورد فيها التكليف، وتترتب عليها الطاعة، وهي بالتالي تنسف
كلَّ ما حاول بناءه؛ لذلك لم يتطرق لها من قريب أو بعيد. وهذا أيضا ما قام به
أوزون عندما استهجن على البخاري ايراده أحاديث عن إباحة الغنائم للأمة الإسلامية؛ وذلك
بحجة "أن الرسول –حسب البخاري- قد جعل هدف الغزو الغنائم واعتبرها حلالاً
لأمته..."،(5) وعلى الرغم من أن أوزون يقوِّل النصوص ما لا تقوله-
وهذا أمر آخر- ما يهمنا في هذه الفقرة أن أوزون تناسي أنَّ هنالك آيات من القرآن تبيح
الغنائم للمسلمين، ولم يقل أحد عنها أنها تجعل هدف الغزو الغنائم، ومنها قوله تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ) (6) وقوله تعالى: (كُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) (7) ولم يذكر أوزون شيئاً عن هذه الآيات،
على الرغم من ادعائه بحجية القران، وأنه الرسالة الوحيدة للنبي صلى الله عليه وسلم(على
حسب زعمه).(8) ومن عدم تعرض أوزون للأدلة التي تتعارض مع ما يريده- ما جاء في سياق اعتراضه على حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: ((بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن
الأرض فوضعت في يدي.)).(9) يعترض أوزون على أن يُنصَر الرسول صلى الله عليه
وسلم بالرعب، فيقول عن ذلك: "لا عجب أن يؤيد الرسول الكريم بالحكمة والموعظة
وبليغ القول(جوامع الكلم) ولكن أن ينصر بالرعب عوضاً عن الخشوع والمحبة؛ وأن يؤتى
بمفاتيح الخزائن عوضاً عن مفاتيح الأتباع والإيمان، فإن ذلك يجعلنا نصف تلك
الأحاديث- كما ذكر بعضهم- بالأحاديث
الأموية(لا النبوية) التي تنبض بتبرير ساسة الانتشار والتوسع والسيطرة.".(10)
ما يهمنا في هذا النص اعتراض أوزون على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالرعب، مع
تناسيه التام أن هنالك آيات من القرآن تؤكد نصرة الرسول والمؤمنين على المشركين
بالرعب، ومن ذلك قوله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (11) وقوله
تعالى: (وَأَنزَلَ
الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا)
(12) وكأن أوزون لا يعلم بوجود
هذه الآيات في القرآن، ويتضح مما ذكر في هذه
الفقرة أن أوزون ينتقي بعض الأدلة التي تؤيد دعواه ولو عن طريق ليّ عنق الحقيقة، ويترك
بعض الأدلة التي تنسف ما ذهب إليه من دعاوى، على الرغم من اعترافه بمصدر تلك الأدلة،
فهو يعترف بحجية القران، ومع ذلك لا يلتفت إلى أدلته التي تتنافى مع ما يزعم.
التناقض:
على الرغم من أن أوزون
ينتقد البخاري في صحيحه لأنه مليء بالتناقضات (على حسب زعمه)،(13) يُلاحظ
أن كتاب أوزون نفسه قد سقط في فخ المتناقضات، وهذه طائفة منها:
1. استشهاده بحديث أبي شاه في كتابة الحديث،(14) وهو من صحيح
البخاري الذي يشكك فيه وكان عليه أن لا يحتج به، ويبحث عن غيره ليقوي به حجته.
2. دفاعه عن التعددية وحرية الفكر في كتابه،(15)ومع ذلك فأنه لا يقبله في مجال اختلاف الأمة الإسلامية فيما
كان من فروع الدين ولم يكن من أصوله، وهذا قوله عن الحديث النبويّ: "من يدرس التاريخ
الإسلامي بحياد وموضوعية ويقف على حال المسلمين اليوم ببحث وتأمل ليستنتج ما ينتظرهم
من مستقبل؛ يدرك تماماً أن الحديث النبوي لعب دوراً رئيساً في تقسيم الأمة وتضارب آرائها
وأفكارها ومذاهبها بحجة التعددية؛ تلك التي يغلب عليها طابع الطائفية والقبلية والعصبية
والتي لا تقبل الطرف الآخر أو تعترف به– وإن زعمت غير ذلك.".(16)
3. يعترض على الاحاديث النبوية ولا يحتج بها لان الصحابة على حسب زعمه
ليسوا بعدول،(17) ثم يحتج بالسنة العملية المتواترة،(18) والتي
لاشك أن طريقها وتواترها يمر عبر الصحابة الذين يصفهم بغير العدول، وفي هذا تناقض صريح
منه تجاههم، فطوراً يترك طريقهم ولا يعتد بهم، وطوراً يأخذ منهم ويحتج بهم.
4. عدم اعترافه بوجود النسخ في القرآن، بل يعدَّه أمراً لا يقبله العقل
حيث يقول: " وبالرغم من ضبابية ذلك المصطلح (النسخ ) لأنه يمكن أن يكون في اللفظ أو المعنى أو بإسقاط الآية (المعلّمة
بين دائرتين)، فإنه يخضع للتحفظ الشديد لأن الله – عز وجل – وهو العالم العليم لا يمكن
أن ينزّل في كتابه العزيز أحكاماً وشرائع ناسخة لما قبلها بفترة لا تتجاوز العقدين
من الزمن.".(19) ثم نجده في موقع آخر يحتج بوجود النسخ حيث يقول:"
ومنطق الأمور أن تكون هذه الآية نهاية التنزيل الحكيم لأنها تدل على اكتمال الدين واتمام
نعمة الله – عز وجل - ورضاه ولا يُعقل أن يُنزّل بعدها آية أحكام أو تعليمات أو تشريعات جديدة لتكون ناسخة لها."(20)
وهذا
التناقض بين آراء أوزون في كتابه يجعل القارئ في حيرة من أمره، فلا يستطيع أن يعرف
أيَّ الآراء يتبناها أوزون في كتابه، فلا يدري هل أوزون يوافق على صحَّة كتاب
البخاري أم مع عدم صحَّته؟ وهل أوزون مع الرأي القائل بعدالة الصحابة أم مع الرأي
القائل بعدم عدالتهم؟ وهل أوزون مع التعددية الفكريَّة أم ضدها؟ وهل أوزون يعترف
بوجود النسخ في القرآن أم لا يعترف بذلك؟ كلّ هذه الأسئلة قد يطرحها القارئ نتيجة لتبني
أوزون الرأي وضده في كتابه.
عدم الالتزام بالمصطلح العلمي:
من المعلوم أنَّ لكل علم
من العلوم مصطلحاته التي تكونت عبر سنين من تراكم الخبرات والاجتهادات، وصارت فيه من
المُتعارف عليه بين أصحاب ذلك العلم، ويقتضي على الباحث أن يُلمَّ بالمصطلحات المستخدمة
في مجال بحثه، ويستخدم منها ما يدلل به على رأيه مادام ذلك مُتاحاً، وإذا اضطُرَّ الباحث
إلى استخدام مصطلح جديد – لقصور في المصطلحات المذكورة- فعليه أن يصف ذلك بدقة وصراحة
حتى يتمكن القارئ من فهم المراد. ولزكريا أوزون رأي مخالف عن ذلك، لم يذكره صراحة وإن
ظهرت الشواهد على ذلك من كتابه، ومن مظاهر عدم الالتزام بالمصطلح العلمي استخدامه مصطلحاً
معروفاً لغير عُرِف به، ومنه أنَّ العلماء استخدموا مصطلح (الوحي) ليعبِّروا به عن
"إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة."(
21) ويستخدم أوزون ذات المصطلح(الوحي) ليعبِّر به عن غير ما عُرِفَ به في
معرض حديثه عن اعتراضه على بعض الأَحاديث القدسية برواية أبي هريرة رضي الله عنه،
وذلك إذ يقول: "حيث نجد في الأمثلة الثلاثة الواردة سابقاً أن الراوي هو أبو هريرة
يتحدث مباشرة عن الرسول عن الله – عز وجل-
من غير وحي منزل. وإذا كان الله – عز وجل-
قد عصم رسوله الكريم في كتابه المنزل من التحريف والسهو والنسيان والخطأ وتعهد
بحفظ ذكره الطيب، فهل هناك ما يشير إلى عدم خطأ أو سهو أو تحريف أو نسيان أبي هريرة؟!".(22)
وهذا النص فيه تحامل واضح على أبي هريرة، إذ إن من المألوف أن يروي الصحابي عن النبي صلى الله عليه
وسلم، ولم يُعرف في علم الحديث أن يكون هنالك وحي بين الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابي،
حتى يطالب أوزون بوجوده بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين أبي هريرة رضي الله
عنه، والشاهد في هذا النص أنَّ أوزون استخدم مصطلح (الوحي) لغير ما عُرِف به عند
علماء علوم القرآن.
كما يظهر أوزون
أحياناً الجهل بمصطلح الحديث، ومن ذلك قوله
في معرض حديثه عن الحديث القدسي: "وهل يحق لنا أن نعتبر قوله عز وجل في هذا الحديث
مؤلفاً من ثلاث آيات ؟!".(23) إنّ هذا التساؤل – مع إحسان الظنَّ به
وأنّه لا يعبِّر عن السخرية- ينمُّ عن عدم
معرفة بمصطلح الحديث القدسي وضوابطه والفرق بينه وبين القرآن، فمن الفروق بين القرآن
الكريم والحديث القدسي أنَّه لا يسمى قرآناً، ولا يسمى بعضه أية ولا سورة،(24)
هذا إلى جانب فروق أخرى ذكرها علماء علوم القرآن والحديث في كتبهم.
كان ذلك أبرز مظاهر الانحراف المنهجي في
كتاب (جناية البخاري)، بالإضافة إلى ما ذُكِرَ بالمقال السابق من عدم الأمانة
العلمية في النقل وعزو الكلام لغير قائله، فضلاً عن الاعتماد على مراجع غير
مختصَّة ثم بناء أحكام عليها، مما أدى في النهاية إلى التشكيك في كتاب (جناية البخاري)
وعدم الثقة بما ذكر فيه من آراء ونقد يحاول التقليل من شأن كتاب (صحيح البخاري) والحط
من مكانته في قلوب الأمة الإسلاميَّة.
_________________________________
(1) زكريا أوزون، جناية البخاري، رياض الريس للنشر، بيروت، ط: 1، 2004م،
ص: 17.
(2) سورة التوبة: الآية: 73.
(3)
سورة الممتحنة: الآية: 12.
(4) سورة الطلاق: الآية: 12.
(5) زكريا أوزون، جناية البخاري، ص: 66.
(6) سورة الأنفال: الآية: 1.
(7) سورة الأنفال: الآية: 69.
(8) زكريا أوزون، جناية البخاري، ص: 18.
(9) البخاري، صحيح البخاري،
(10) زكريا أوزون، جناية البخاري، ص: 64.
(11) سورة الأنفال: الآية: 12.
(12) سورة الأَحزاب: الآية: 26.
(13) زكريا أوزون، جناية البخاري، ص:
(14) المرجع السابق، ص:
(15) المرجع نفسه، ص:
(16) نفسه، ص:
(17) نفسه، ص:
(18) نفسه، ص:
(19) نفسه، ص: 42.
(20) نفسه، ص: 37.
(21)
(22) زكريا أوزون، جناية البخاري، ص: 54.
(23) المرجع السابق، ص: 50.
(24) جمال محمد علي الشقيري، الأحاديث القدسية، مكتبة دار الثقافة
للنشر والتوزيع، عمان، (ت. د)، ص: 6.
أنا اصدق كل مجاء بيه المهندس وباحث زكريا اوزون
ردحذف