الانحراف المنهجي في كتاب (جناية البخاري) لزكريا أوزون (1) (صورة أبي هريرة- رضي الله عنه- في الكتاب نموذجاً)


الانحراف المنهجي في كتاب (جناية البخاري) لزكريا أوزون  (1)
(صورة أبي هريرة- رضي الله عنه- في الكتاب نموذجاً)
أ‌.       محمَّد إبراهيم  محمَّد عمر همَّد محمود
مقدِّمة:
     زكريا أوزون مهندس سوريّ الجنسيَّة،  وهو كاتب وباحث في الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة، وله كتب في هذا المجال ومنها: كتاب (جناية سيبويه) ويهتم بنقد النحو العربيِّ، وكتاب (جناية الشافعيِّ) ويهتم بنقد الفقه الإسلامي، وكتاب(جناية البخاريِّ) ويهتم بنقد كتب الحديث النبويِّ، وهو موضوعنا في هذا المقال وفي مقالات قادمة إن شاء الله.
تمهيد:
     صدر كتاب (جناية البخاري) عن دار رياض الريس للنشر(بيروت- لبنان) في العام 2004م، ويهتم الكتاب بالبحث في إشكاليَّة الحديث النبوي –على حسب زعم المؤلف- لكونها من أعقد الأمور في الدين الإسلامي، وقد اختار المؤلف (صحيح البخاري) لما له من أهميَّة وقيمة ومكانة عند كثير من أئمَّة المسلمين.(1) ويقع الكتاب في (165) صفحة من القطع المتوسطة، ويتكوَّن من: إهداء، ومقدمة، وثمانية فصول، وخاتمة.
     وسنتناول في هذا المقال الصورة الذهنيَّة التي يقدمها الكتاب للصحابي أبي هريرة- رضي الله عنه- حسب المصادر والمراجع التي استقى منها الكاتب معلوماته، وإلى أي مدى التزم بالمنهجيَّة العلميَّة في ذلك.
     يقول زكريا أوزون في حديثه عن أبي هريرة بعد أن ذكر قصة إسلامه: " وحين توفي النبي]صلى الله عليه وسلم[ ولاه الخليفة عمر(عام 20)على البحرين بعد وفاة العلاء بن الحضرمي وسرعان ما عزله وولى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي، أما السبب في ذلك فكان عندما أجاب الخليفة عمر بأنه – أبو هريرة – يملك عشرين ألفاً من بيت مال البحرين حصل عليها من التجارة(بقوله كنت أتجر)، وكان رد الخليفة عمر: ((عدواً لله والإسلام، عدواً لله ولكتابه، سرقت مال الله حين استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ما رجعت بك أميمة (أمه) إلا لرعاية الحمير)) وضربه بالدرة حتى أدماه. وقد منعه تماماً عن رواية الحديث النبوي بقوله: (لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القرود أو بأرض دوس). ويؤكد أبو هريرة ذلك فيقول: ((ماكنت استطيع  أن أقول قال رسول (ص) حتى قُبض عمر)) أو: (( لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته)).(2) ويحيل القارئ إلى مراجعه التي استقى منها معلوماته، وهي كما يلي:
1- قوله: "وحين توفي ...(بقوله كنت أتجر)". مرجعه تاريخ الذهبي الكبير2/338.(3) وبالرجوع إلى تاريخ الذهبي نجد أن القصة كما يلي: "أن عمر قال لأبي هريرة: كيف وجدت الإمارة؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها، وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين قال: أظلمت أحدا؟ قال: لا، فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفا، قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أتجر، قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه، واجعل الآخر في بيت المال. وقال محمد بن سيرين: استعمل عمر أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف فقال عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه، قال: لست بعدو الله وعدو كتابه ولكن عدو من عاداهما، قال: فمن أين هذا؟ قال: خيل نتجت، وغلة رقيق، وأعطية تتابعت عليّ، فنظروا فوجدوه كما قال. ثم بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى.".(4) وبمقارنة ما ذكره أوزون بما ذكره الذهبي يتضح الآتي:
أ‌- أن أوزون اكتفى من القصة بذكر ما يُفهم منه أن أبا هريرة لم يكن أميناً على المال، وأنه ادّعى حصوله على المال من التجارة فقط.  
ب‌-  لم يذكر أوزون الرواية الأخرى للقصة نفسها وما تكشفه من أسرار عن ثروة أبي هريرة، وكذلك لم يذكر  دفاع أبي هريرة عن نفسه عندما قال له عمر: "يا عدو الله..". حتى يُفهم من ذلك أن أبا هريرة يُقرّ بما اتُهم به.
ج‌- لم يذكر أوزون أهمَّ جزء في القصة، ألا وهو أنّه تمَّ التدقيق في ثروة أبي هريرة وكانت النتيجة أنها وُجِدَتْ كما قال، لذلك أراد عمر أن يستعمله مرة أخرى، فرفض أبو هريرة العرض، وهذا شيء لم ينقله أوزون في كتابه عن الذهبي .
2- أما قوله: "وكان رد الخليفة ... إلا لرعاية الحمير". فمصدره كتاب  العقد الفريد 1/53.(5) وهو كتاب أدب، ولا يعد كتاباً مختصاً  في التأريخ، إذ  أن من عادة مؤلفي  مثل هذه الكتب التهافت على النوادر والطرائف، ولا يهتمون بمضمون النقل، ولا التثبت في الرواية يثير اهتمامهم، كما أن  ما أخذه أوزون من هذا الكتاب كان شيئاً قد خلت منه الكتب المختصة مثل: (تاريخ الطبري)، و(تاريخ الإسلام)، و(الكامل في التاريخ)، و(البداية والنهاية)، و(سير أعلام النبلاء)، وكل هذه الكتب كانت بين يدي أوزون، وقد أشار إليها في أكثر من موقع في كتابه، ولم يُذكر فيها شيئاً مما ذُكِر في (العقد الفريد)، وبذلك يعد خبره هذا باطلاً، ولا تقوم به الحجّة. وبالرجوع إلى كتاب (العقد الفريد) نجد أن أوزون لم يذكر بقية القصة في ذات الصفحة من (العقد الفريد): "فقال لي بعد ذلك: ألا تعمل ؟ قلت لا. قال: قد عمل من هو خير منك يوسف صلوات الله عليه. قلت يوسف نبي وأنا ابن أميمة، أخشى أن يشتم عرضي، ويضرب ظهري، وينزع مالي .".(6) وهذا يعني أن أوزون يختار من مراجعه ما يفهم منه عدم أمانة أبي هريرة رضي الله عنه، ويعرض ما سواه ذلك حتى لو أدى به ذلك إلى اقتطاع جزء مهم من النص الذي يقتبس منه.
3- أما قوله :"ومنعه تماماً  عن رواية الحديث النبوي بقوله: لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القرود أو بأرض دوس)". فمراجعه (البداية والنهاية) 8/206، و(سير أعلام النبلاء)   2/4631، و(أضواء على السنة) ص: 54.(7) وبالرجوع إلى مراجع أوزون نجد أنه ورد في (البداية والنهاية ): "عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس، وقال لكعب الأخبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القرود.".(8) ويفسر صاحب الكتاب هذا المنع بأنه يحمل على خشية عمر من أن يضع الناس الأحاديث في غير موضعها، وأنهم قد يتكلمون على ما فيها من الرخص، أو يخشى أن يقع في أحاديثه بعض الخطأ، فيحملها الناس عنه. ثم يذكر بعد ذلك: " وقد جاء أن عمر أذن له بعد ذلك في التحديث ، فقال مسدد: حدثنا خالد الطحان، ثنا يحي بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال: بلغ عمر حديثي فأرسل إليّ فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان؟ قال قلت نعم ! وقد علمت لمَ تسألني عن ذلك؟ قال: ولمَ سألتك؟ قلت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: ((من كذب علىّ متعمداً فليتبوء مقعده من النار))(9) قال: أما إذًا فاذهب وحدث .".(10) وقد جاء في كتاب (أضواء على السنة) ما يلي: "وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس.".(11) وبمقارنة ما ورد في كتابي(البداية والنهاية) و(أضواء على السنة) بما أورده أوزون نقلاً عن الكتابين ذاتهما سنلاحظ:
أ‌- التحريف في النص الذي ذكره أوزون، وقد جعل من أبي هريرة هو المُهَدد بالنفي إلى أرض القرود أو أرض دوس، مع أن النفي إلى أرض القرود قد هُدِّد به كعب الأخبار. وربما حسب أوزون أنّ ذكر أرض القرود سيحط من مكانة أبي هريرة، أو يرسم صورة هزلية له لا تليق بمن يحدث الناس فيُحمَل حديثه على محمل الجد.
ب‌- ذكر أوزون أن عمر منع أبا هريرة عن الحديث تماماً، وقد اتضح أن الأمر لم يكن كذلك، وأن عمر قد سمح له بالتحديث مجدداً، بعد التأكد من حفظه، ومن تذكره لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي متعمداً)).
ج- كالمُعتاد أوزون لم يذكر أهمّ جزء في الرواية، ألا وهو أن عمر سمح لأبي هريرة بالتحديث مجدداً.
4-أما قوله :"ويؤكد أبو هريرة...(...لضربني بمخفقته)".  فيشير في كتابه  إلى أنّه رجع إلى كتاب أضواء على السنة، ص 59.(12) وبالرجوع إلى كتاب (أضواء على السنة المحمدية ) نجد فيه: "وعن الزهري عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة بقول: ماكنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قُبض عمر! ثم يقول: أ فكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله.".(13) وهذا الكلام أخذه صاحب كتاب(أضواء على السنة) من كتاب(البداية والنهاية)،(14) وبمقارنة  النص كما جاء في كتاب (أضواء على السنة المحمدية) بما ذكره أوزون يتضح ما يلي:
أ‌- حرَّف  أوزون ما نقله، وذلك بأنه قال: "ماكنت أستطيع أن أقول" ، وفي كتاب (أضواء على السنة ): "ماكنا نستطيع أن نقول". وربما فعل أوزون ذلك حتى لا يُفهم من أن المنع كان عاماً للصحابة – رضوان الله عليهم - ككل ولم يكن قاصراً على أبي هريرة رضي الله عنه.  
ب‌- وكالمُعتاد يحذف أوزون أهمّ جزء من الرواية، ألا وهو قول عمر: " اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله .". وربما  فعل أوزون ذلك حتى لا يُفهم من ذلك أن مَنْع عمر كان سببه الخوف من الانشغال بالأحاديث عن قراءة القرآن، وليس منع أبي هريرة وحده من التحديث.
      يتضح مما سبق ذكره تقديم أوزون أبا هريرة-رضي الله عنه- في صورة الرجل غير الأمين على المال مرة، وفي صورة الرجل الكاذب الذي لا يجب الثقة بحديثه، وكان الغرض من ذلك التشكيك في مدى صحة الأحاديث التي وردت في (صحيح البخاري)، وهذا آخر ما يقوله أوزون عن أبي هريرة: "وهنا أكتفي بما جاء في الأثر عن أبي هريرة؛ وأتساءل: ألم تصل تلك المعلومات إلى الإمام البخاري قبلنا؟! وكيف أخرج الكثير من أحاديثه في صحيحه ؟!".(15) قد يكون  من الجائز إثارة مثل هذه الأسئلة لو كانت هذه المعلومات التي قدمها أوزون صحيحة، أما وقد ثبت زيفها فلا قيمة لهذه الأسئلة المبنية على معلومات مضللة، هذا بالإضافة إلى ما تمثله هذه المعلومات المضللة من انحرف منهجي واضح يتنافى مع أسس وقواعد البحث العلمي.
_____________________________
(1) زكريا أوزون، جناية البخاري، رياض الريس للنشر، بيروت، ط: 1، 2004م، ص: (11- 12).
(2) المرجع السابق، ص: (20- 21).
(3) المرجع نفسه، ص: 29، هامش: (10).
(4) الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تــ: الدكتور عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط: 2، 1993م، ص: 356 .
(5) زكريا أوزون، جناية البخاري، ص: 29، هامش: (11).
(6) ابن عبد ربه، أحمد بن محمد، العقد الفريد، تــ: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 3، 1987م، جـ: 1، ص: (44- 45).
(7) زكريا أوزون، جناية البخاري، ص: 29، هامش: (12).
(8) ابن كثير، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، 1992م، جـ: 8 ، ص: 106.
(9) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، باب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: 107.
(10) ابن كثير، البداية والنهاية، جـ: 8 ، ص: (106- 107).
(11) محمود أبو رية، أضواء على السنة المحمدية، دار المعارف، القاهرة، ط: 6، (ت. د)، ص: 174.
(12) زكريا أوزون، جناية البخاري، ص: 29، هامش: (13).
(13) محمود أبو رية، أضواء على السنة المحمدية، ص: 174.
(14) ابن كثير، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، 1992م، جـ: 8 ، ص: 107.
(15) زكريا أوزون، جناية البخاري، ص: 21.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3) (نظريَّة تضافر القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)