ظاهرة التركيب(النحت) في اللغة التگْرايِتْ



ظاهرة التركيب(النحت) في اللغة التگْرايِتْ
أ‌.      محمدإبراهيم محمدعمر همد محمود
     يقصد بالتركيب عند علماء اللغة المحدثين المركَّب الذي ((يكون عن طريق وضع جذرين (مورفينين حرّين) جنباً إلى جنب مثل railroad المأخوذة من الكلمتين road و rail )).(1) وهو ما أسماه قدامى اللغويين العرب (النحت)، والذي ينشأ عن كلمتين تركَّبان معاً بغرض الاختصار، يقول ابن فارس عن ذلك: ((وهذا مذهبنا في أنَّ الأشياء الزائدة على ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت، مثل قول العرب للرجل الشديد((ضبطَر)) وفي((الصِّلِّدم)) إنَّه من ((الصَّلْد)) و((الصَّدْم)).)).(2) ونجد هذه الظاهرة اللغويَّة في بعض ألفاظ اللغة التگْرايِتْ، وذلك كما في الأمثلة الآتية:
مَنْتايْ: تؤم: ويمكن تحليل هذه الكلمة إلى ثلاث كلمات هي: منْ+ إنت+ آي، فـ(مِنْ) أو(مَنْ) أداة استفهام، و(إنْتَ) ضمير المخاطب، (آي) علامة النسب، ويكون المعنى الحرفيّ من اتحاد الكلمات الثلاث: منْ أنتْ، أي المقصود من يقال له (مَنْ أنْتْ)، ويقال هذا أحياناً للشخص الذي يكون له شبيهاً آخر فيصعب التفريق بينهما، والتؤم يشبهان بعضهما بعضاً، فلو أنَّ اسم أحدهما(حسن) والآخر(حسين) وهما متشابهان، فسيصعب معرفة (حسن) من(حسين)، فيستحقان أن يسئل كلٌّ منهما (مَنْ أنتَ؟)، إذن فكلمة (مَنْتَايْ) أطلقت على التؤم لتشابههما إلى درجة تستدعي سؤال كلٍّ منهما عمَّن يكون هو.
عَنْقَرْ: لسان المزمار: ويمكن تحليل هذه الكلمة إلى كلمتين هما: عِنْ+ قَرْ: عِنْ: لها معان كثيرة في اللغة التگرايِتْ، ومنها: العين، أداة البصر، والشمس، وعين الماء، وواجهة الشيء وعكسها: قِنْ، وأصل الشيء، وموضع حمل الشيء، وموضع الفتحة في الشيء، وما يهمنا هنا معناها(موضع الفتحة في الشيء)، أمَّا (قَرْ) فتعني(قرن) كقرن الشاه والثور، ويكون المعنى الجديد من اتحاد الكلمتين (فتحة القرن)، وهذا وصف ينطبق على معنى(عنقر)( لسان المزمار )، إذ إنَّ هذا العضو وظيفته قفل فتحتي الهواء والطعام بالتناوب.
دَنْبَرْ: جناح: ويمكن تحليل هذه الكلمة إلى: دن+ بر: دنَّ: انحنى. بر: فرَّ الشي ومدَّه. ويكون المعنى الجديد الشيء الذي ينحني ويفرد(يفرَّ)، وهذا ينطبق على آلية عمل جناح الطائر حيث يقبض ويصف في الطيران.
شنگبايِتْ: اليد اليسرى للإنسان: ويمكن تحليل هذه الكلمة إلى: شِنْ(بول) + گبي(طريق)+ (آي) (علامة النسب)+ (تاء) التأنيث، ويكون المعنى الحرفي لاتحاد هذه المكوِّنات: المنسوبة إلى طريق البول، وهذا الوصف ينطبق على وظيفة اليد اليسرى، والتي تستخدم في الاستنجاء من النجاسة. ويطلق لقب(شنگبايِ) على الشخص الأعسر(الذي يستخدم يده اليسرى في العمل).
دَنْگَطَ: ارتعب: أي أصابته شدّة الخوف،  ويمكن تحليل هذه الكلمة إلى كلمتين هما: (دِنْ)(سكت)+( گَطْ)(وجه)، ويكون المعنى الحرفي لاتحاد هذه المكوِّنات: سكت وجه، أي توقَّف تعابير الوجه على حركة واحدة، وهذه حالة تنطبق على الشخص الذي يظهر له شيء مخيف فجأة فتتجمَّد تعابير وجهه.  
كِرِنْكَعْ: تطلق هذه الكلمة وصفاً على القميص المتَّسخ  من اختلاط العرق والتراب، ويمكن تحليل هذه الكلمة إلى كلمتين هما: (كِرِنْ)(صوت)+(كَعْ)(صوت يصدر عن الثوب الجاف بعد العرق)، ويكون المعنى الحرفي لاتحاد هذه المكوِّنات: صوت (كَع)، والمراد به الشيء الذي يصدر هذا الصوت، ألا وهو القميص المتَّسخ من اختلاط العرق والتراب به.
مَنْتَلّي: أرنب: الحيوان المعروف، ويمكن تحليل هذه الكلمة إلى كلمتين هما: مَنْ(أداة استفهام)  + تَلَّيْ(ترافق، تذهب مع)، ويكون المعنى الحرفي لاتحاد هذه المكوِّنات: مَنْ ترافق أو تصاحب، والاستفهام لغرض بلاغيِّ هو(النفي)، فيكون مدلول هذا الكلام هو الحديث عن الذي لا يصاحب أحداً، أي النافر، وهذه الصفة تنطبق على الأرنب.
عَرْقَبْ: العقرب: الحيوان المعروف، ويمكن تحليل هذه الكلمة إلى كلمتين هما: عَرَّ(لحِقَ) +(قَبْ) (عَضَّ)، ويكون المعنى الحرفي لاتحاد هذه المكوِّنات: لحِقَ وعضَّ، فيكون مدلول هذا الكلام هو الحديث عن شيء يلحق ويعضُّ، وهذا فيه شيء من صفة العقرب، إذ تضرب بإبرتها وهي مقبلة لا مدبرة.
جنگلاي: سريع: وهذه الصفة توصف بها الفرس في اللغة التگرايت، ويمكن تحليل هذه الكلمة إلى: جِنْ(المخلوقات المعروفة) +( گلى) (خطف)+(آي) علامة النسب، ويكون المعنى الحرفي للمركَّب الجديد: (المنسوب إلى خطف الجن)(خاطف الجن)، ودلالة هذا المعنى على السرعة من حيث أنَّ من يستطيع خطف الجن(المعروف بالسرعة) يستحق أن يوصف بالسرعة.
       وهنالك كلمات في التگرايِتْ يمكن عدُّها من ظاهرة النحت الذي نجد أصله المنحوت في اللغات الساميَّة الأخرى، وعلى أن يكون الجذر اللغوي مشتركاً بين التگرايِتْ واللغات الساميَّة الأخرى، ومن ذلك الأمثلة الآتية:
آنِفْ: أنف: حاسة الشم، وهذا اللفظ من المشترك الساميِّ،(3) ويمكن توضيح النحت فيه من خلال اللغة الأكَّديَّة، فهو يتكوَّن من(إِنْ)(عين)+(أَف)(فم)، ويكون المعنى الحرفي للمركَّب الجديد: عين الفم، ودلالة هذا المعنى على حاسة الشم،  من حيث أنَّ الأنف يقوم بوظيفة العين(الجاسوس) للفم، وذلك عن طريق نقل رائحة الطعام، أو يكون عيناً للفم من حيث أنَّه يمثل فتحة إلى الفم يتسرب منها الأشياء إلى الفم كالغبار والسوائل والمخاط.
إِنَاس: رجل: وهذا اللفظ يمكننا توضيح النحت فيه من خلال لغتين ساميتن هما الأكَّديَّة والآرميَّة، إذ يتكون من كلمتين هما: (إِنْ)(عين) بالأكَّديَّة+(أسْ)(إنسان) بالآرميَّة،(4) ويكون المعنى الحرفي للمركَّب الجديد: عين الإنسان، ودلالة هذا المعنى على (الرجل) أنَّ الرجل – نظراً الإنسان الأوَّل- يمثل أصل الإنسانيَّة، وأنَّ المرأة فرع منه، وذلك كما نصَّت عليه الكتب السماويَّة على خلق  سيدنا آدم(عليه السلام) من تراب، وخلق أمَّنا حواء من ضلعه.
الخلاصة:
1.    يتضح مما سبق أنَّ بالتگْرايِتْ ألفاظاً ترجع إلى مرحلة لغويَّة موغلة في القدم، وذلك باحتوائها على ظاهرة الإلصاق، وهي ظاهرة استخدام لفظين ودمجهما ليعبِّر المكوَّن الجديد منهما على معنى ثالث.
2.    ويكون هذا النحت أو الإلصاق من لفظين أو أكثر، وقد يكون هذا النحت من اسم وفعل، أو من اسمين، كما قد يلحق باللفظين (مورفيمات)(وحدات صرفية) مثل علامة النسب. 
3.    وجود بعض الكلمات المنحوتة والتي ترجع إلى المشترك السامي، ولا يمكن تحليلها إلا بمعرفة اللغات السامية الأخرى.
4.    ما ذُكِرَ بهذا المقال لا يمثِّل كلَّ الألفاظ المنحوتة في التگْرايِتْ، وإنما يمثل أمثلة نوعيَّة للظاهرة اللغويَّة ويمكن للباحثين في اللغة إيراد كثير من الأمثلة الأخرى، إذ إنَّ معظم الألفاظ الرباعيَّة والخماسيَّة قد تكون منحوتة في الأصل.
___________________________________
(1) أسس علم اللغة، ماريو باي، تــ: أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، ط: 8، 1998م ، ص: 155.
(2) الصاحبي في فقه اللغة، أحمد ابن فارس، دار الكتب العلميَّة، بيروت، ط: 1، 1997م،  ص: 210.
(3) تاريخ اللغات الساميَّة، إسرائيل ولفنسون، مطبعة الاعتماد، مصر، ط: 1، 1929م، ص: 284.
(4) معـــــجم المفردات الآرميَّة القديمة، د. سليمان بن عبد الرحمن الذييب، مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنيَّة، الرياض، 2006م، ص: 38.

تعليقات

  1. السلام عليكم.
    حبيبنا الفاضل
    يشرفني أن أتواصل معك عبر الوتساب فليتك ترسل لي رقمك عبر البريد ولك جزيل الشكر.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3) (نظريَّة تضافر القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)