أهداف الاختبارات في الدرس النحوي القديم
أهداف الاختبارات في الدرس النحوي القديم
د. محمد إبراهيم محمد عمر همَّد
ارتبط الدرس النحويُّ بحلقات العلم، حيث يتلقى الطلاب النحو عن طريق المشافهة في تلك الحلقات، كما كانت الأسئلة النحويَّة تتخلل تلك الحلقات، وهي الأسئلة التي يهدف العلماء بها إلى تحقيق أغراضاً وأهدافاً تعليميَّة نحوية، يتعلَّق بعضها بالمٌخْتَبَر، وذلك كما يلي:
1. تحديد المستوى العلمي النحوي للدارس: يكون ذلك من خلال طرح الأسئلة التي تظهر المستوى العلمي للدارس في النحو قبل الشروع في عملية التعليم، ومن ذلك أنَّ أبا العباس ثعلب لمَّا أراد أن يكتب عن الرياشيِّ- عند قدومه بغداد- قال له: أسألك عن مسألة، فقال أبو العباس: سل. فقال الرياشي: نِعمَ الرجلُ يقوم. فكان رد أبي العباس ثعلب: ((الكسائي يضمر رجل يقوم، والفراء لا يضمر، لأنَّ نِعْمَ عنده اسم وعند الكسائي فعل ويقوم من صلة الرجل. وسيبويه يقول: عنه ترجمة.)).(1) وهذا النوع من الاختبارات يسمى حالياً باختبار تحديد المستوى أو اختبارات الاستعداد، وتكشف عن المهارات والقدرات التي يمتلكها الطالب في دراسة هذا الجانب من المقرر المراد تدريسه له، وتغطي تلك الاختبارات المعلومات التي يجب توفرها لدى الطالب قبل دراسة المقرر.(2) وقد كشفت هذه المسألة وجواب ثعلب عنها عن كفايته النحوية، ومدى إلمامه بالآراء النحوية فيها.
2. معرفة التحصيل النحوي بعد الدراسة: من ذلك أنَّ أبا الحسن المروزي كان يختلف إلى الكسائي أربعين سنة، فسأله ذات يوم: ((كيف تقول: مررتُ بدجاجةٍ تنقُرُك أو تنقُرِك؟ فقال: تنقرُك. فقال الكسائي: استحييتُ لك، بعد أربعين سنة لا تعرف حروف النعت أنها تتبع الأسماء، تقول تنقرك من نعت الدجاجة.)).(3)يظهر هذا النص اختبار الكسائي لتلميذه في موضوع (النعت) وما يتعلق به من أحكام نحوية، وكانت نتيجة الاختبار رسوب الطالب الذي لم يفرق بين الأحكام في موضوع النعت. وقد ذهب الأصمعي إلى الخليل ليستفيد منه في النحو، فسأله: يا كيِّسُ ما الفرق بين الخفض والجرِّ؟ فسكت الأصمعي برهة ولم يجب، فقال له : ما صنعتَ. فقال الأصمعي: ((الخفض عندي الشيء دون الشيء، كاليد إذا جعلتها تحت الرِّجل. والجر أن تميل الشيء إلى الشيء وتقيم شيئاً مقام شيء، كقولك: هذا غلام زيد، فزيد أقمته مقام التنوين.)).(4)يظهر هذا النص اختبار الخليل لتلميذه الأصمعي في التفريق بين الخفض والجر، فكانت إجابته عن ذلك معللة برأي لغوي. كما سأل المبرد يوماً تلميذه أبا إسحاق الزجاج عن كيفيِّة تصغيره (أمويّ) فقال: أُميِّيِّ، وعند سؤاله عن حذف ياء التصغير منها كما حذفت في النسب أجاب الزجاج : ((تلك لغيره، تلك للجنس وهذا له في نفسه، فلا يُطرح ما كان في نفسه حملاً على ما كان للجنس. فقال: أجدت يا أبا إسحاق.)).(5) وهذا النوع من الاختبارات يقابله الآن ما يعرف بالاختبارات البنائية، وهي اختبارات تهدف إلى معرفة مدى إتقان الطالب للمادة العلمية أو المقرر الذي تم تدريسه له.(6) والنص السابق يظهر اختبار المبرد تلميذه الزجاج في موضوع نحوي يتعلق ببناء الكلمة ألا وهو موضوع التصغير، وقد أجاب الزجاج برد أعجب به أستاذه ونال استحسانه.
3. المفاضلة بين النحاة: ذلك عندما يريد الخليفة أو أحد من علية القوم معلماً لابنه، وقد كان عند الخليفة المهدي مؤدباً لابنه الرشيد فسأله ذات يوم: كيف تأمر من السِّواك؟ فقال المؤدب: اسْتَكْ. فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون، اطلبوا لنا رجلاً غيره. فذكر له الكسائي فأرسل في طلبه، ولما حضر سأله: كيف تأمر من السواك؟ فقال الكسائي: سِكْ فاك يا أمير المؤمنين. وكان ذلك سبباً في أن يكون الكسائي مؤدباً للرشيد ثم لابنه المأمون من بعده.(7) ومن ذلك مفاضلة الوزير عبيد الله بن سليمان بين هارون بن الحائك الضرير وأبي إسحاق الزجاج، وذلك بغرض اختيار أحدهما لتعليم ابنه النحو، فطلب منهما أن يسأل كل منهم صاحبه، فسأل الزجاج ابن الحائك: كيف تقول: ضربتُ زيداً ضرباً؟ فقال هارون: ضربتُ زيداً ضرباً. فقال الزجاج: فكيف تكني عن زيد وعن الضرب؟ فسكت ابن الحائك ولم يجد جواباً، فكان ذلك سبباً في تفضيل الوزير الزجاجَ على ابن الحائك، وقد اتخذه معلماً لابنه بناء على ذلك الاختبار.(8)
كما ذكر الفراء للقعود مع المعتصم، ثم ظهر رجل يقال له أياد قد طلب القعود معه، فاختبر في النحو، فقيل له: كيف تقول يا زيدُ أقبل؟ فقال: يا زيدُ أقبلْ. فسئل عن الضمة التي على الواو، فذكر أنها (الواو) التي في (وأقبل). فكان جوابه مرضياً عندهم، وبناء عليه اختير بناء على الفراء للقعود مع المعتصم.(9) وكذلك كان اختيار ابن ناصح النحوي لتأديب ابني الخليفة المتوكل على أساس من الاختبار النحوي، حيث جمعهم الكاتب وطلب منهم التذاكر للاختيار بينهم، فجاء بينهم قول الشاعر:(10)
ذَرِيْنِي إنَّمَا خَطَئِي وَصَوَبِي عَليَّ، وإنَّ مَا أنْفَقْتُ مَالُ
فقالوا: رفع (مال) بـ(ما)، إذا كانت ما في موضع الذي، فقال ابن ناصح: هذا الإعراب فما المعنى؟ فسكتوا، ولم يجدوا جواباً، فقال: المعنى: إن ما أنفقت مال، لم أنفق عرضاً فعلام اللوم.
يتضح من ذلك أنَّ الاختبارات النحوية قد تسهم في المفاضلة بين النحاة عندما تتقارب مراتبهم العلمية، فيلجأ الخلفاء والأمراء وعلية القوم إليها عند اختيار معلمين لأبنائهم، سواء أكان ذلك عن طريق اختبارهم بأنفسهم، أو عن طريق أجراء المناظرات بينهم، حيث تهدف تلك المناظرات إلى إظهار التفوق على الأقران عند اشتداد المنافسة بينهم.
______________________________
(1) الزجاجي. مجالس العلماء. ص: 48.
(2) مراد وسليمان، صلاح أحمد وأمين علي.(2005م) الاختبارات والمقاييس في العلوم النفسية والتربوية. ط: 2. القاهرة- الكويت: دار الكتاب الحديث. ص: 32.
(3) الزجاجي. مجالس العلماء. ص: 141.
(4) المرجع السابق. ص: 193.
(5) المرجع نفسه. ص: 240.
(6) مراد وسليمان. الاختبارات والمقاييس في العلوم النفسية والتربوية. ص: 34.
(7) الأنباري، أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد.(1998م). نزهة الألباء في طبقات الأدباء. تـحقيق: إبراهيم، محمد أبو الفضل. القاهرة: دار الفكر العربي. ص: 69.
(8) الزبيدي. طبقات النحويين واللغويين. ص: 151.
(9) الزجاجي. مجالس العلماء. ص: 50.
(10) البيت لأوس بن غلفاء في اللسان. انظر: ابن منظور. لسان العرب. مادة (صوب) ،ج: 1، ص: 535.
(11) الأنباري. نزهة الألباء في طبقات الأدباء. ص: 184.

تعليقات
إرسال تعليق