الصفقة (2): مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
الصفقة (2): مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
محمد إبراهيم محمد عمر همد
اقتحم الجنود القسم (ج) من سجن ريمون، وصاح أحدهم بأن من يسمع رقمه عليه بلف برشه وأغراضه والتهيؤ للخروج من القسم، فاشرأبت الأعناق وأرهفت الآذان لسماع الأرقام المذاعة، الكل يتمنى أن يسمع إذاعة رقمه الآن، فهذا الوضع الحالي من العروض المسرحية القليلة التي يشعر فيها الأسرى بالمتعة والإثارة، لأنها في الغالب تنتهي بأحد أمرين: أحدهما: النقل لسجن آخر، وهذا مما يتيح فرصة لكسر حاجز الرتابة والملل الذي ينتاب الأسير من جراء وجوده مع عدد محدود من البشر في رقعة جغرافية ضيقة لفترة زمنية طويلة، وأما الآخر: فهو الخروج من السجن نهائيا، واستعادة حريته مجدداً. لذلك بدا الكل هنا مترقباً ماعدا واحداً هو شيخ الأسرى، كما بدا الجندي مستمتعاً بذلك، وهو يضغط على الحروف وكأنه يقوم بتذوقها فعلاً قبل النطق بها، وهاهو ينطق بالرقم(3113)، ليقفز نبيل الدباغ فرحاً، وهو يودع رفقائه بيد، ويجمع أغراضه بأخرى، ومن ثم أدخل غرفة الزيارة ليجد بعض الأسرى من الأقسام الأخرى من السجن قد سبقوه إلى الغرفة، حيث تم تففتيشهم بدقة، وطلب منهم تسليم ملابس السجن، وارتدوا الملابس خاصتهم، الآن تيقن من صدق شيخ الأسرى عندما أسر له قبل شهر بأنه سيكون حراً طليقاً في القريب العاجل، وطالبه بكتمان الأمر حتى يحين الوقت المناسب لذلك، لم يهتم بالأمر في حينه وعده نوعاً من المزاح، أو حيلة من حيل الشيخ لرفع روحه المعنوية، والتي كانت في الحضيض آنذاك، ثم قص عليه التفاصيل لاحقا، وذلك عند استدعائه إلى مكتب المأمور، حيث سئل عن رأيه في المنفى لو تم إطلاق سراحه يوما ما، وقد أدرك شيخ الأسرى بخبرته بالسجن وأسراره أن ثمة صفقة لتبادل الأسرى تلوح في الأفق، وأن اسمه على قائمة الأسرى المقترح الإفراج عنهم، ولكنه غير متفائل بذلك، وقد أصيب بخيبة أمل في صفقة سابقة، وقد كاد وجود اسمه فيها أن ينسف الصفقة من أساسها، حيث تشبث رفاقه بضرورة أن تشمله الصفقة بينما تمسك الإسرائيليون بعدم إطلاق سراحه حتى لو تم إلغاء الصفقة، وفي النهاية وافق رفقاؤه على إتمام الصفقة من دونه على مضض، ولم يلمهم على ذلك فقد فعلوا ما في وسعهم، ولكن تعنت الإسرائيليين حال دون ذلك، وإن كان يتمنى من أعماق قلبه أن يخرج من هذا القبر المظلم ولو ليوم واحد، والآن يجد اسمه مطروحا بقوة، لابد من أنَّ ظروف التفاوض الآن في صالح حماس، وهذا أمر لن يشكك فيه أحد ولكن خبرته بهؤلاء الإسرائيليين تجعله متحفظاً من الإسراف في التفاؤل، فهم لن يطلقوا سراحه مهما كلفه الأمر، لذلك لديه خطة بديلة لتمرير إرادته عليهم دون أن يشعروا، ففي حال تعنتوا في الإفراج عنه سيقترح أن يكون الإفراج عن بدلا منه، وبالفعل حدث ما توقعه بالفعل، وتيقن الآن من صدقه ومن كونه قد صار خبيراً في الشأن الإسرائيلي، فهاهم الآن يسلمونه كيساً مكتوبا عليه رقمه ، وبداخله أغراضه التي كانت معه لحظة اعتقاله، فهذا بنطلونه الجينز الأزرق، وهذا القميص السماوي الذي بهت لونه قليلا، وهذه فرشاة أسنانه البيضاء، لا يدري ما لذي أتى بها إلى هنا، ما هذه الورقة القديمة؟ فتحها، ووجد مكتوباً عليها بقلم رصاص قائمة بأشياء هي: سمك، لحم ضأن مفروم، بصل، بقدونس، كنافة. لقد تذكر هذه القائمة، لقد كانت طلبات زوجه أعطته إياها فجر القبض عليها. أحس بانقباض في صدره، ودمعت عيناه لتلك الذكرى الحزينة للمرحومة زوجه.
أخرجه زعيق الجنود من ذلك العالم الذي كان يسبح فيه بخياله، وقد قيدوا أيديهم خلف ظهورهم، وحملت أيديهم المكبلة أمتعتهم، وهم يدفعونهم إلى (البوسطة) عربة نقل السجناء، ثم انضموا لبقية الأسرى المفرج عنهم من السجون الأخرى، لتقلهم الحافلات إلى معبر كرم أبي سالم، ومنه إلى الجانب المصري، ثم الدخول إلى قطاع غزة عبر معبر رفح.
انتصف النهار أو كاد، وهاهي شمس يوليو الحارة تلهب أجساد البشر بأنفاسها الملتهبة، فتسوق الناس إلى ملاذاتهم الباردة برعونة وعنف، بينما تبكي كل خلية من خلايا أجسادهم على طريقتها الخاصة، وتعبق رائحة العرق بالجو فيصر لزجاً مفعماً بالرطوبة، يبدو أنَّ الغلاف الجوي هنا يمارس دوره بكفاءة منقطعة النظير، من الصعب أن تفلت منه قطرة ماء إلى الفضاء الخارجي. ثمة طفلين يقرعان باب بيت في أطراف القطاع بقوة تتناسب مع جسديهما الصغيرين، تفتح الباب امرأة نحيلة في العشرينيات من العمر، وقد بدت مضيئة ومتهللة الأسارير على الرغم من الطقس الحار الذي يعكر المزاج، ثم احتضنت أحد الطفلين بكل حب وحنان، بينما وقف الآخر على مسافة مناسبة في انتظار أن يأتي دوره في هذا الحضن الحنون، وقد أخذ العناق وقتاً أطول مما ينبغي، ضارباً عرض الحائط بكل القواعد، فهنالك طفل آخر في الانتظار، والجو حار، والبيت ظليل وبارد، يبدو أن المرأة قد تناست كل ذلك إذ تطيل عناق وتقبيل الطفل الأول، ثم قامت بإيواء الطفل المحظوظ وهي تغلق الباب دون الآخر، والذي فغر فاه في ذهول وغضب، ليقرع الباب بكل عنف من جديد،ولا أحد يستجيب، وخيل إليه أنه سمع أنيناً مكتوماً من خلف الباب، ثم تناهى إلى أذنيه صوت جهوري يألفه ويطرب لسماعه وهو يناديه:
زياد.
التفت ليجد أبيه على بعد أمتار منه وهو يفرد يديه ليحتضنه، وبكل ما أوتي من سرعة وشوق ولهفة سعى إليه، ودفن جسده الصغير في حضنه، وهو يبكي وينتفض بعنف.
اهتز سرير العناية المركزة بعنف في مستشفى غزة، فسقط المريض على الأرض، وقد سرت قوة خفيَّة في جسد المريض ففتح عينيه ببطء، ثم انتزع الخراطيم الموصولة بجسده من كل اتجاه، وهو يفرك عينيه الناعستين، ليتأكد من أنه قد استيقظ من هذا الحلم. وتأمل المريض الشخص الجالس على الأرض بجواره، وهو يتحسس جسده في لهفة وشوق. لم يصدق زياد عيناه في أن الجالس إلى جواره هو أبيه نبيل الدباغ بشحمه ولحمه، ثم انخرط الأب وابنه في عناق ونحيب حار، ثم خرج الرجلان يتوكأ كل منهما على الآخر ليخرجان من بوابة المستشفى، حيث السرادق التي نصبتها حماس للاحتفال بالأسير المحرر نبيل الدباغ والذي رفض أقامته وظل مرابطاً على رأس ابنه في المستشفى، والآن يجد لذة وانشراحاً وهو يستنشق نسيم الحرية ويملأ من رئتيه، وصوت الشاعر زهير الزيتوني يشنف سماعه ويزيده حماسة وشباباً وهو يقول:
لو تبقت في يدي رابين قطةْ..
لا تساومْ..
أو تبقت في عروق الدم قطرةْ..
لا تسالمْ..
ولو تبقت من فروض الموت سقطةْ
فلتقاومْ..
لا تهرول نحو أوسلو يا صديقي..
وتوقفْ..
إن هذا الحق نقطة.
كم مشينا خلف أوسلو يا صديقي..
فبكينا..
ربع قرن أو يزيدْ..
كل يوم نحلم بالفجر الجديدْ..
ليت أنا ما حلمنا.
بأمان خلَّب حتى هرمنا..
هل جفَّ حلقك يا صديقي؟
لست مثلي!
لا عليكْ
من سراب قد نهلنا فارتوينا..
فلتدقق يا صديقي..
هل ترى خلف السراب..
سالم عمي..
تتقاذفه المنافي..
هل يعود؟
خذها مني يا صديقي: لن يعودْ..
إن أوسلو لا ترحبْ..
رمَّ جرحها بالصديدْ..
فلتدقق يا صديقي من جديد..
بين ذرات السراب..
وستبصرْ..
ذاك مروان ابن عمي..
خلف قضبان الحديدْ..
لم نخنهْ..
تلك أوسلو يا صديقي..
ومروان كما تعلم عنيد..
قد قسوت يا صديقي
هل ستصبر؟
ولأجلي ستحدق في السراب..
وتكرر..
هل ترى وطنا عزيزا
أم فخاراً يتكسرْ؟
هل زرعنا فحصدنا؟
نحن بعنا يا صديقي..
هل ربحنا؟
ما ربحنا..
لا تقل غزةْ .. أريحا..
فلتكن غزة بغزةْ..
ولترحني من أريحا..
ما أرحنا.. ولا استرحنا..
تلك أوسلو..
كانت ولا زالت سقطةْ..
فلتقاومْ..
ولو تبقت في يدي رابين قطةْ
لا تساومْ..
لا تهر
ول نحو أوسلو يا صديقي
وتوقفْ..
إن هذا الحق نقطةْ.
تعليقات
إرسال تعليق