الصفقة (1): مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
الصفقة (1): مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
محمد إبراهيم محمد عمر همد
ارتفع صرير باب في موضع ما من نفق دائري أسفل أرض القطاع، فدخل من الباب رجلان تبدو عليهما دلائل الشدة والغلظة على الرغم من تغطية وجهيهما بالكامل، فصار يرمقهما بخوف مشوب بالفضول والترقب الحذر، لم يكن يحلم في أسوء كوابيسه أن يقضي ثوان معدودة في معية رجلين شرسين كهذين، والأسوأ أن يكون تحت رحمتهما وطوع أيديهما يحركانه كيف يشاءان، ويفعلان فيه وبه ما يشاءان. ربط أحد الرجلين العصابة على عيني ، بينما قيد الآخر معصميه، وألصق الشريط اللاصق على فيه بخفة ومهارة واضحة، وقد فهم أن وقت الرحيل قد أزف، ولكنه لا يدري إلى أين، فقد صارت حركة انتقالاته من موضع إلى آخر متقاربة في الآونة الأخيرة، يبدو أن رفقاءه على مقربة منه في مكان ما هنالك، قدح هذا الخاطر فتيل الأمل في قلب للحظة، سرعان ما خفت ضوءه فكأنما كان ومضة خاطفة. ذلك وقد تذكر أنه ما من أسير قد وقع في يد حماس فاستطاعت أي قوة على وجه الأرض استخلاصه منها عنوة واقتداراً، وحتى في عمليات التحرير النادرة فإنها كانت تنتهي بمقتل الأسير وآسريه، لكم يتمنى أن يكون الاستثناء الأول من تلك القاعدة، فيتم تحريره بسلام، انحدرت دموعه تحت العصابة، وصحبتها تنهيدة حارة، كانت سبباً كافياً لتلقي دفعة قوية من الرجلين، وكانت من القوة بمكان إذ جعلت جسده يتأرجح بشدة، أرجحة انتشلته من بين تلك والوساوس والخواطر التي انتابته لبرهة قصيرة، فعاد كما كان طيعاً هيناً ليناً في أيديهما، هذا على الرغم من أنه لا يشعر بارتياح لوجوده بين أيدي هذين الرجلين القاسيين، واللذين يذكرانه بانطباعات سيئة عن آسريه وليلة أسره، وهي انطباعات بدأ في التراجع عنها رويداً رويداً مع كمية ونوعية الطعام الجيد الذي كان يقدم له، هذا بالإضافة إلى السماح له بالرياضة وحلاقة الشعر أحيانا، يبدو أن الحياة في داخل الأنفاق ليست بذلك السوء الذي يصورونها بها هنالك، والآن قد آن لتلك الانطباعات السيئة أن تستعيد مركزها المتقدم في قلبه وهذان الرجلان يدفعانه إلى السيارة بعنف.
انطلقت بهم السيارة بسرعة، ولم يستطع أن يحدد الوقت بدقة ولكنه يستطيع أن يخمن بأنه قبيل الفجر بقليل مع أصوات الديكة التي تتناهى إلى سمعه، ولأول مرة منذ خمس سنوات يستنشق نسيم الصباح، فملأ منه رئتيه بحرص وإتقان، لا يدري متى يمكن أن تتاح له فرصة كهذه مرة أخرى. وقد لا حظ طول الرحلة، لا بد إن هذين الرجلين يتوهان أحداً ما يتعقبهما، ولا يريدان التوجه إلى وجهتهما الحقيقية قبل التأكد من عدم مراقبتهما، ويسمع أصوات سيارات تتخطاهم مسرعة على طول مسيرهم في الطريق، لا يمكن أن تتجه كل هذه السيارات إلى الوجهة نفسها مصادفة، هذا ما لم يكن الأمر مجرد سباق للسيارات، ومع كل هذه التخمينات والخواطر المتسارعة لم يلاحظ أن الرجل قد رفع العصابة عن عينيه حتى لحظة إغماضهما غريزياً بسبب تعرضهما للضوء بصورة مفاجئة، وما أن فتحهما ببطء حتى أبصر منظراً هزه وجعله يجهش بالبكاء، لم يصدق أنه الآن هنا في معبر رفح على مقربة من الجانب المصري، الآن شمس الحرية تشرق من سيناء، وقد ترجل من السيارة بصحبة حارسيه وقد هاله موكب السيارات المتشابهة في النوع واللون، والتي قدمت إلى المعبر في نفس الوقت، حتى حراس تلك السيارات على نسق واحد من التشابه في الحجم والزي، يبدو أن حماس تؤدي جميع أعمالها بالحماس والإتقان اللازمين، وقد دخله شيء من الشعور بالفخر لكونه جزء أصيلا في هذا العرض المهاري المتقن.
استقبله مندوب الصليب الأحمر على الجانب المصري من المعبر، وألقى عليه بعد الأسئلة تتعلق بالتأكد منه، وأجريت له بعض الفحوصات الطبية للتأكد من سلامته صحيا، كما حظي باستقبال حار من مندوب رئيس الوزراء، والذي تأكد بنفسه من أنه هو الأسير المعني، ولا وجود لخداع في الأمر، بإمكانهم الآن تنفيذ ما يليهم من الصفقة.
ثم حلقت بهم المروحية متجهة إلى قاعدة تل نوف الجوية، وبهبوطها على المدرج- وانقشاع طبقة الغبار الذي أثارته بمروحتها العملاقة- أبصر حشداً من المسئولين ذوي المناصب الرفيعة في انتظاره، ومن بين أولئك المنتظرين كان ثمة شخص ما واضحاً وضوحاً طاغياً في وسطهم، لقد كان ذلك الشخص هو الوحيد الذي تربطه به علاقة أزلية مباشرة، لقد كانت تلك أمه، والتي صارت ترتعش من وطأة الفرح وشدَّة الانفعال، هرول إليها، ثم احتضنها بقوة تتناسب مع هذه الروح العطشى للقائه، فانخرطا في نحيب حار كان أبلغ ترحيباً من كل عبارات الترحيب والحفاوة بكل اللغات البشرية، فشهقت عدة شهقات مزلزلة، ومع كل شهقة منها يتساقط عناء سنة من سنوات الأسر والحرمان، ثم انتزعه بعض الحضور من ذلك العناق الحار مذكراً إياه بطابور المنتظرين لمصافحته وعناقه أيضاً، فبدأ في مصافحة الطابور، وكم كان مفاجئ له أن يكون رئيس الوزراء نفسه على مقدمة الطابور، كانت تلك اللحظة من اللحظات النادرة التي يشعر فيها بالفخر، يبدو أنه قد أصبر بطلاً قومياً، وهو الذي اعتقد أنه قد طوته صحيفة النسيان، ثم أدخل إحدى الغرف الجانبية في القاعدة، وخلع عنه الثياب المدنية، لقد حان الوقت لارتداء زيه الرسمي، وقد أحس بشيء من الانقباض النفسي وهو يرتديه في تراخ وتردد.
تعليقات
إرسال تعليق