الساعات الأخيرة: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي

 


الساعات الأخيرة: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي 
أ. محمد إبراهيم محمد عمر همد 


     هبَّ  إياد من غفوته مذعوراً  لصرير الباب الحديديِّ، لتقع عيناه على ملثمين يدفعان بشخص إلى داخل السجن، ثم يعودون من حيث أتوا، دفعه الفضول إلى الاقتراب من الضيف الجديد، وهو يتوقَّع أن يجد جاسوساً فلسطينيَّا مثله، ما لم يطرق خياله أن يكون هذا الرفيق الجديد أسيراً إسرائيليَّا، سرت رعشة خاطفة في قلبه، ثم تشظَّت أطرافها لتعمَّ سائر جسده لثوان معدودات، وكأنَّما أحسَّ بشيء من الفخر ونشوة النصر، يبدو أن الانتماء لهذه الأرض قد تجذَّر عميقاً  في قلبه، وهو الذي كان يعتقد عن نفسه أنَّه قد تبرَّأ من هذه الأرض وأهلها عندما انخرط في سلك الجاسوسيَّة والتخابر مع العدو، شعر بشيء من الانبهار لمرأى هذا الجندي الإسرائيلي، على الرغم من أنَّ هذه ليست المرة الأولى التي تأسر فيها حماس جنديَّا  إسرائيليَّاً، وعلى الرغم من أنَّه قد شارك في حملة البحث عن أسرى إسرائيليين من قبل، إلا أنَّها كانت محاولات فاشلة، ولم تنجح في اختراق الجدار السري الذي تحيط به حماس الأسرى، حتى أصبح البحث عن أسرى لدى حماس مضيعة للوقت والمال والجهد، والأفضل منه الانخراط في مساومة حماس على صفقة ما، لكلِّ هذا يحملق إياد في وجه هذا الجندي في انبهار تامٍّ، وإذا برعدة مفاجئة تسرى في جسد إياد كلَّه، وكأنَّ تياراً كهربائيَّاً قويَّاً يسري في شرايينه حتى يصل إلى قلبه فينتفض بعنف، بينما يتأرجح عقله على علامة استفهام كبرى تخلخل أعماقه، لِمَ سُمِحَ له برؤية هذا الأسير؟ ولم يجد عقله سوى إجابة يتيمة تتردَّد في دهاليزه، فيتردَّد صداها في ردهات قلبه، ألا وهي أنَّه أصبح في عداد الأموات، لا أحد يرى أسرى حماس ثم يعيش ليروي ذلك. يبدو أنَّه كان محقَّاً في ظنه، فهاهو الباب يفتح من جديد، ويدفعه ملثَّمان إلى خارج القبو، ومنه إلى سطح النفق، حيث تنتظرهم سيارة يدفعانه إليها ثم تنطلق بهما، وشمس يوليو الحارقة تجعل من السيارة سفوداً ضخماً يشوى عليه إياد وحارسيه والسائق. 
       توقفت بهم السيارة عند مبنى جوزات غزة، وإذا بجمع غفير في انتظارهم، يترجَّل إياد وحارساه من السيارة، وهو يتفرَّس في الوجوه الناقمة، وسرعان ما انطلقت عبارات السباب والتخوين من أفواه الجماهير، ولم يغضبه هذا السباب بل شعر بشيء من التوازن النفسي وهو يتخطى الجموع الغاضبة، ومن بين تلك الوجوه الغاضبة هنالك وجه نحيل تبدو دلائل الانكسار والقهر واضحة عليه، وتكشف عظامه الناتئة عن محجرين تتلألأ في عينيه دموع تقاوم رغبة صاحبها في الانحدار إلى أخدودين كالحين على بقايا خديِّن متغضِّنيْنِ، لو سمح لإياد للبقاء لساعة أخرى لقضاها في حضن  صاحب هذا الوجه النحيل- زوجته سهير الزيَّات، لم يعد يخشى من الموت ولكنه يشعر بالألم لن يتمكَّن من رؤية هذا الكائن الرقيق بعد، وما يؤلمه أكثر هذه النهاية المخزية التي ستعزف لحن ختام حياته، لمْ يكن محقاً عندما اعتقد أنَّه ليس لديه ما يخسره عندما سلك هذا الطريق، يبدو أنَّ لديه ما يخسره، سيخسر سهير الزيَّات.
       طلب الإذن من مرافقيه لإلقاء تحيَّة الوداع على زوجته، فسمح له بذلك، ولم يخشَ من محاولة فراره، وقد انتشر أفراد الأمن خاص بزيِّهم وأقنعتهم السوداء المميَّزة، وقد نصبوا سياجاً أمنياً محكماً حول المكان، لا أحد يستطيع الفرار من هذا الطوق الأمنيِّ المحكم. اقترب إياد من زوجته بينما هي منخرطة في نحيب حار، وشريط الذكريات يعود بها إلى تلك الليلة التي قرَّرت فيها الارتباط بإياد إلى الأبد.   
     انتصف الليل أو كاد ومازالت سهير الزيَّات تتقلَّب في مضجعها ولم يطرق النوم جفنيها بعد، ربما ضلَّ النعاس في طريقه إليهما، أو ربما قد سئم من مداعبة هذين الجفنين اللذين استعصيا على كلِّ حيله وألاعيبه في دغدغتهما، فرحل مغاضباً عنهما، ولكن لو علم بما يختلج في صدر الفتاة من هموم لآثر البقاء إلى جانبها شفقة عليها، فهي في محنة تعجز عن الاهتداء إلى سبيل الخروج منها.
      هذه الفتاة في ورطة نسجت يداها خيوطها بإحكام حول عنقها، والآن تعجز عن الخروج منها دون أن تفقد استقرارها وهدؤها النفسيين، سمعت من قبل كثيرا من القصص التي تتحدث عن الضمير وتأنيبه، وباستثناء وجود الضمائر في دروس النحو العربي لم تؤمن قط بوجود شيء اسمه الضمير خارج تلك الدروس، وما يحكى عنه من قصص عن صحوته ووخزاته لم يكن سوى خيال ووهم لم يخطر ببال سهير في حياتها من قبل. الآن تقرُّ بوجوده وقد اكتشفت مؤخراً أنَّها تملك واحداً بحالة جيَّدة على الرغم من أنَّه لم يُستخْدَم من قبل، كما أنَّها لا تعرف كيف تديره، لا تدري أتفرح بهذا أم تحزن، وفي الحقيقة لا تشعر بأيٍّ منهما، ولكنها تشعر بخوف مشوب بالقلق والتوتر، وقد حزمت أمرها واختارت إياداً على تؤمه زياد، وكان ذلك اختيار عن دراسة وتمحيص وقراءة لمجريات الأحداث والواقع الذي تمر به البلاد، وقد وجدت سهير نفسها في حيرة من أمرها في البداية، إذ لاقت صعوبة في الاختيار بينهما، زياد بوسامته الأخاذة، واندفاعه وحماسه الزائد في سبيل ما يؤمن به من أفكار، مع حنان وألفة لكل من تجمعه به صلة، وبين إياد بجسده الممشوق وحديثه الهادئ ذي النبرات الواثقة، وسحره الاجتماعي الطاغي، وكرمه الحاتمي، وكل منهما يؤثرها بحديثه ويبثها همومه وأشجانه، وكانت تجد تسلية في ذلك، ولم تعتقد أن يتطور الأمر ليطلباها للزواج كل على حده، ويعلمها كل منهما لوحده ودن علم الآخر، وهنا بدت الحاجة إلى نصب الموازين ضرورة، فالزواج استقرار ومستقبل وأبناء وبيت زوجية كما تقول أمها، وهذه الأشياء تحتاج إلى (مصاري) كما يقولون، صحيح أنهما لا يملكان المال الكافي، ولكن إياد يملك وظيفة تدر عليه دخلاً لا بأس به، بينما زياد مازال موعوداً بوظيفة قد يحصل عليها وربما لا، وهذه نقطة تحسب لصالح إياد، وعلى الرغم من أنَّ وسامة زياد وحنانه الزائد صفتان مثاليتان لفتى أحلام كل فتاة، إلا أن هوسه المبالغ بقصص التضحية والفداء ومنابذة الأعداء يشغل حيزا كبيراً من تفكيره، ليتسبب ذلك في تراجع ترتيب الحب ومتطلباته إلى آخر قائمة اهتماماته المستقبلية، وهو ترتيب لا يمكن أن تفخر به أي فتاة تملك قلباً بين جنبيها، وهذه نقطة تحتسب على زياد، لو كان الأمر  بالتمني لتمنَّت أن يكون أحدهما جامعاً للصفات التي تعجبها في كلٍّ منهما، وبما أن الأمر ليس كذلك فهاهي تختار إياد على مضض، وتشعر بشيء من الرثاء والشفقة تجاه زياد لأنَّه كان واثقاً من أنَّها ستقبل به زوجاً، يبدو أنَّه قد خسر الرهان لأنَّه لم يعرف قواعد اللعبة جيداً، كما لم يعرف إمكانياته المتواضعة مقارنة بندِّه التقليدي وتؤمه إياد، ولكنها على ثقة من أنَّ زياداً سيتخطى هذه المحنة بقليل من البكاء والمخاط وإن كان سينكر ذلك لاحقاً، ولكنه في النهاية سيتقبَّل الأمر الواقع، وسيواجهه بما يملكه من قوة وشجاعة، فضلاً عن أنَّه شغوف بقصص التضحية والفداء، فقد آن له أن يلعب دوراً بطوليَّا بامتياز، وهذا اختبار حقيقي لإيمانه بتلك القصص والبطولات التي لا يسأم من ترديدها.
      أحسَّت بشيء من الارتياح لوصولها إلى هذه النقطة، وقد انصرم الليل، وبدأ النعاس يداعب عينيها من على البعد، وهي تستسلم له في إغراء واضح، لولا أن خطر لها خاطر مفاجئ، ماذا لو اتفق الشقيقان على عدم الارتباط بأيٍّ منهما، وقد كشفا خدعها وألاعيبها، وبأيِّ وجه ستلاقي زياداً إذا تزوجت إياد وهما يقطنان البيت نفسه، وكيف ستسير الأمور بين الأخوين بعد الزواج من أحدهما، وهذا أمر يصعب التكهن به، فكَّرت في كلِّ ذلك، وهذا التفكير جعلها في موقف دفاعيٍّ، فهي لم تصرَّح لأيٍّ منهما بحبها له، فضلاً عن أنَّ الحب نفسه شيء لا تعترف به، فكلُّ ما كانت تشعر به أنها معجبة بصفات معيَّنة في كلٍّ منهما، وتجد متعة في كونها موضع اهتمامهما، ولم تعطِ أكثر من عبارات الإطراء والشكر على كلِّ منفعة تنالها من أحدهما، وحتى هذا الشكر والإطراء كان بقدر محدد حرصت على توزيعه بالتساوي بينهما، وهذا ما جعلها تحتفظ بهما معاً لوقت طويل، فإذا فسَّر أحدهما شيئاً من هذا بالحب فهذه مشكلة  تخصه هو ولا تعنيها من قريب أو بعيد، ومن بعيد بدأ الصبح يلوح بمنديله الأبيض في الأفق، وارتخى جفنا سهير على عينيها فأحسَّت ببرودتهما على عينيها الملتهبتين. ،
      هنا انحدرت الدموع الحارة من عينيها، وقد أحسَّت بشيء من الارتياح لذلك، وقد أطفأت الدموع إحساساً باللوعة يقلي في صدرها، فهي سعيدة لأنَّها أخيراً قد زفَّت لإياد، وإن كان ينقص هذه السعادة عدم شهود زياد يوم زفافها، لما فعلته به من قبل، ثم تتذكر إن هذه إرادة الله وعليها التسليم بقضاء الله وقدره.
      استمرَّت سهير في النحيب وهي تصل إلى هذه النقطة من ذكرياتها، بينما إياد يحاول أن يهدِّئ من روعها، ويذكرها أن هذا قضاء الله وقدره، فقط عليها أن تسامحه على كلِّ ما سبَّبه لها من ألم، وتمنى من أعماق قلبه لو أنَّها لم تكن زوجته يوماً، فهي تستحق من هو خير منه. 
     دفعه الحارسان إلى منصة الإعدام وصيحات الرجال الغاضبة تلهب أذنيه، وذكر اسم عائلته مقروناً بلقب الجاسوس يزيد من ذله وانكساره، أحسَّ بالغضب يقلي الدم في عروقه، فتزداد نبضات قلبه، لا يهمَّه أن يعدم الآن أو في أي وقت لاحق، كما لا يقلِّل من فداحة الجرم الذي ارتكبه بحق هذه الأرض ولا يبرِّر له، ولكنه يكره هذه الطريقة المهينة التي يعامل بها اسمه العائلي، حمد الله كثيراً أنَّه لم ينجب ابناً، هذا على الرغم من أنَّه تمنى ذلك كثيراً وسعى له بكلِّ السبل، فلو كان له ابن اليوم لما وقف شامخاً في مبنى جوزات غرة الآن، تمنى إياد أن تنتهي هذه المسرحيَّة الآن وبأقصى سرعة، ولكن يبدو أن القوم يستمتعون بكلِّ مشهد من مشاهد هذه المسرحيَّة، فهاهو أحدهم يتلو صحيفة إجرامه بعد أن تلي آيات القصاص بينما يدفعه الحارسان إلى  تخصه هو ولا تعنيها من قريب أو بعيد، ومن بعيد بدأ الصبح يلوح بمنديله الأبيض في الأفق، وارتخى جفنا سهير على عينيها فأحسَّت ببرودتهما على عينيها الملتهبتين. 
      هنا انحدرت الدموع الحارة من عينيها، وقد أحسَّت بشيء من الارتياح لذلك، وقد أطفأت الدموع إحساساً باللوعة يقلي في صدرها، فهي سعيدة لأنَّها أخيراً قد زفَّت لإياد، وإن كان ينقص هذه السعادة عدم شهود زياد يوم زفافها، لما فعلته به من قبل، ثم تتذكر إن هذه إرادة الله وعليها التسليم بقضاء الله وقدره.
      استمرَّت سهير في النحيب وهي تصل إلى هذه النقطة من ذكرياتها، بينما إياد يحاول أن يهدِّئ من روعها، ويذكرها أن هذا قضاء الله وقدره، فقط عليها أن تسامحه على كلِّ ما سبَّبه لها من ألم، وتمنى من أعماق قلبه لو أنَّها لم تكن زوجته يوماً، فهي تستحق من هو خير منه. 
     دفعه الحارسان إلى منصة الإعدام وصيحات الرجال الغاضبة تلهب أذنيه، وذكر اسم عائلته مقروناً بلقب الجاسوس يزيد من ذله وانكساره، أحسَّ بالغضب يقلي الدم في عروقه، فتزداد نبضات قلبه، لا يهمَّه أن يعدم الآن أو في أي وقت لاحق، كما لا يقلِّل من فداحة الجرم الذي ارتكبه بحق هذه الأرض ولا يبرِّر له، ولكنه يكره  هذه الطريقة المهينة التي يعامل بها اسمه العائلي، حمد الله كثيراً أنَّه لم ينجب ابناً، هذا على الرغم من أنَّه تمنى ذلك كثيراً  وسعى له بكلِّ السبل، فلو كان له ابن اليوم لما وقف شامخاً في مبنى جوزات غرة الآن، تمنى إياد أن تنتهي هذه المسرحيَّة الآن وبأقصى سرعة، ولكن يبدو أن القوم يستمتعون بكلِّ مشهد من مشاهد هذه المسرحيَّة، فهاهو أحدهم يتلو صحيفة إجرامه بعد أن تلي آيات القصاص بينما يدفع الآخر زياد ونزاهته وعفته، إن كان لزياد عيب فهو حرصه الدائم على الالتزام بمبادئه مهما كانت الظروف ضده، وهذا ما يفعله الآن بكلِّ ثبات ونكران ذات يُحسَد عليهما، لهذا يقف هذه الوقفة الصلبة ويصوّب سلاحه إلى قلب أخيه وكأن الأمر لا يعنيه من قريب ولا بعيد. وقد وجد إياد أخاه محقَّاً ورحيماً في ذلك، لقد حان الوقت ليخلصه من كل العذاب الذي يجثم على قلبه من جراء خيانته ومشاركته في مقتل أبي مرزوق في ذلك اليوم. 
      اقتربت سيارة أبي مرزوق من إياد الذي بدأ مهموماً، حتى أنه لم ينتبه إلى توقف السيارة على بعد سنتيمترات عنه، الأمر الذي جعل أبي مرزوق يضغط على بوق التنبيه حتى التفت إياد مذعوراً، وأبو مرزوق يشير إليه بالصعود وهو يقول:  
يبدو أنك لن تذهب إلى العمل اليوم!
صعد إياد على السيارة وجلس على المقعد الخلفي على غير العادة، وقد تعود على الجلوس على المقعد المجاور السائق، يبدو أن الأمور على غير ما يرام، وهذا ما لاحظه أبو مرزوق، من المستحيل أن تكون أمور إياد على ما يرام ووجه يبدو شاحباً كممسحة قديمة، لا يحتاج الأمر إلى خبير ليعرف أن هذا الجفن المتورم المحمر لم يغمض على عينه ليلة أمس، وبدافع الفضول بدأ أبو مرزوق يسأله عن حالته الصحية وأموره العائلية وأحواله المالية، وكل هذه الأسئلة المتنوعة لم تغر إياد بالبوح، ولم تفلح كل محاولات استنطاقه، يأتي وقت على الإنسان يكون أحوج ما يكون إليه فيه أن يترك وشأنه، ويبدو أن إياد يمر بذلك فعلاً، كان ذلك ما توصل إليه أبو مرزوق بعد كل المحاولات الفاشلة لاستنطاقه.
    انعطفت السيارة يميناً، ثم وقفت أمام روضة الندى، فترجل أبو مرزوق وحفيدته،  وهنا بدأ قلب إياد يدق بعنف كطبل أجوف تعبث به يد قاسية، لو لم يترجل أبو مرزوق من السيارة اسمع ذلك بوضوح، وقد كان إياد يمر بوضع نفسي متأزم، وقلبه متصدع بين ما هو مقدم عليه وبين ما يجب عليه فعلاً، لو مرة في حياته يفقد احترامه لنفسه، ويكتشف أنه خسيس وأناني، لم يتعود على الإساءة لمن يسيء إليه، فكيف سيطاوعه قلبه على الإساءة إلى من أحسن إليه، فكيف يمكنه أن يطاوعه على الإساءة إلى أبي مرزوق وهو من هو، وجمائله على الحي والأسرة أكثر مما يمكن تعديده وإحصائه،  لو لم يكن لهذا الرجل من جميل عليه سوى إيصاله بالسيارة في طريقه لكفاه عن الأحجام عن المشاركة في قتله! انتفض جسد إياد عند تفكيره في هذه النقطة، وقد علت جسده قشعريرة باردة وهو يسمع أبا مرزوق يقول لحفيدته: 
سأعود إليك لاحقاً كوني بخير يا صغيرتي.
يقول ذلك وهو يطبع قبلة حارة على خدها الصغير، فتلتصق به، لا يدرك هذا البائس أن هذا هو آخر عهده بالحياة، والمؤسف أن يكون هذا على يديه.انحدرت دمعة حرى على خده الأيسر، وأطلق تنهيدة مكتومة لم تتجاوز ردهات جوفه، وهو يشعر بمزيج كريه من الخوف والمرارة والندم يتحشرج في حلقه، لقد فضل الانتحار على الإقدام على قتل أبي مرزوق، ولكنه وجد نفسه جباناً لن يقوى على ذلك، الآن تأكد من أنه أناني ويفتقر إلى الشجاعة النادرة التي يتميز بها المنتحرون فيقدمون على قتل أنفسهم دون تردد، وبينما هو يتخبط في تردده إذ أقبل أبو مرزوق، فقرر أن يخبره بكل شيء وليكن ما يكون بعد ذلك، لولا أنه أحجم عن ذلك في آخر لحظة، وقد هاله المصير المظلم الذي سينظره لو كشف أمره، ربما لن تغفر له حماس ذلك، وماذا عن مصير زوجته وابنه القادم من رحم الغيب، وماذا عن تاريخ أسرته الناصع الخالد بمآثر التضحية والفداء، كل هذا سيصبح هباء، لذلك فليمت أبو مرزوق فهذا أهون، فهو ميت لا محالة، ولاشك أن الرجل مؤهل لذلك، من الصعب أن يعمل الشخص في المقاومة ويمني نفسه بميتة هادئة مريحة، ويظل الموت مشروب كريه المذاق مهما كانت أوعيته وأسبابه جذابة  وناعمة، عند هذه النقطة وصل إلى ضرورة إكمال المهمة، وليسامحه أبو مرزوق، فقد تحتم عليه الاختيار بين حياته وحياة أبي مرزوق، ومن الطبيعي أن يختار حياته، وهو الشاب الغض الذي لم يعش في هذه الدنيا بما يكفي، ثمة طموحات لا بد من تحقيقها، وآمال يصبو إليها، وقد عاش أبو مرزوق وتمتع بما يكفي، ولا أظنه يطمع في المزيد، وبيد مرتعشة وعقل مشوش وقلب ينبض بعنف وعين دامعة ألصق إياد الشريحة الممغنطة على كرسي أبي مرزوق وهو يرتجف، وقد نظر إليه أبو مرزوق وأحسَّ بأنه في وضع غير معتادٍ، ولكن مع ذلك تجاهل أمره، حتى أنه لم يمازحه وهو يترجل من السيارة والأخير يلوح بيده مغادراً، ولم يبتعد أبو مرزوق قليلاً حتى سمع أياد دوي انفجار قوي، واهتزت الأرض تحت قدميه بعنف.          







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(1) (نظريَّة الأستاذ إبراهيم مصطفى)