الوظيفة: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي

 الوظيفة: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي 

                      محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود 




    الثامنة صباحاً ومازال إياد  مرابطاً أمام هذا المكتب بمصنع السلماني للغزل والنسيج، هذه هي المرة الثانية التي يجلس فيها في هذا الموضع الذي جلس فيه قبل عام من الآن، عام تغيَّرت فيه أشياء كثيرة في حياته ولم يتغيَّر فيه شيء يذكر في هذا المكتب، مازالت الطاولة المستطيلة تربض في ذات موضعها في وسطه، وأمامها كرسيٌّ متواضع، بينما يطل من خلفها ثلاث كراسٍ توحي بشيْ من الفخامة والارتياح، نظرة خاطفة من الداخل تكفيه ليفهم أن مراتب الناس تتفاوت في الحياة على الأقل في هذا المكتب. يبدو أن من وضع أثاث هذا المكتب اختاره ووضعه في هذه المواضع بعناية فائقة، فأول ما سينتاب الجالس على الكرسي الأمامي هو الإحساس بالضآلة وقلَّة القيمة أمام الجالسين خلف الطاولة، وهذا ما انتاب إياد لأوَّل مرة جلس فيها على هذا الكرسي، لا يدري هل سينتابه هذا الإحساس مجدداً الآن؟ اعتقد أنَّ الإجابة بـ(كلَّا) عن هذا السؤال قد تكون منطقيَّة، إذ إنَّ الظروف الآن في صالحه، فقد كان عدد المتقدمين للوظيفة كبيراً في المرة السابقة بالإضافة إلى محدوديَّة الوظائف، فضلاً عن عدم حصوله على سابق خبرة. الآن لديه خبرة لا بأس بها(خبرة عام)، كما حصل على تزكية خاصة من مراقب الوردية يوصي فيها بتثبيته بالعمل، لكلِّ هذا يعتقد أن هذه المقابلة الآن هي مجرد مقابلة إجرائيَّة وسيوقِّع بعدها على عقد العمل، انتشله من هذه التأملات نداء الساعي يدعوه للدخول لمقابلة اللجنة.
    خطا إلى المكتب وهو يذاكر كلَّ ما قرأه وشاهده على الإنترنت عن رهاب المقابلة وأسئلتها السخيفة والمقلقة، وأعدَّ قدراً لا بأس به من الإجابات التي يتمنى أن تكون مُرضِية، لذلك استعاد رباطة جأشه وهو يلقي التحية عليهم، وقد أحرجه البرود الذي قوبل به، ولكن لا بأس هذا أمر يهمهم، ما يهمه الآن أن يركِّز جيداً حتى يجيب عن أسئلتهم الاستفزازيَّة، وقد قال أوسطهم وهو يطالع أوراقي أمامه: أنت إياد نبيل الدباغ؟
وقال آخر:
أنت تعمل هنا منذ عام؟
بينما قال الثالث:
هل ترغب فعلاً في العمل هنا بصفة دائمة بعد؟
     هل أنا في ورطة؟ هذا سؤال وجه إياد إلى نفسه سراً. فهذه ثلاث أسئلة لم يتوقَّع أن يسأل عنها، لذلك بدا التردد والخوف واضحين على قسمات وجهه، لا يدري عن أي سؤال يجيب في البدء وكلُّهم يحدِّق في وجهه وعيناه تقولان ابدأ بالإجابة عن سؤالي. وقد أعجب اضطرابه أكبرهم سنَّاً وأرفعهم قدراً فقال منهياً الأمر:
لا بأس. حصلت على العمل، فقط عليك اجتياز الكشف الطبيِّ.
     تهلَّلت أساريره، واعترته خفة كادت تدفعه إلى الانكباب على رأس هذا الرجل وتقبيله، لولا أن تمالك نفسه بصعوبة بالغة ودمعة فرح حارَّة تشقُّ طريقها على خدِّيه، وعلى الرغم من فرحه البالغ بالنتيجة التي آلت إليها هذه المقابلة إلَّا أنَّها في المقابل خيَّبت ظنِّه، وجعلته يتحسر على كلِّ ما أنفقه من وقت وجهد في تصفح الإنترنت لتحضير إجابات نموذجيَّة لأسئلة من نوع لماذا على الشركة أن توظِّفك؟ وكم تستحق أن تأخذ أجراً على هذه الوظيفة؟ ونحو هذا من الأسئلة الاستفزازيَّة التي لا يعرف ما المغزى منها، ولكن ما يعرفه الآن بعد هذه المقابلة أن أسئلة المقابلة قد تطوَّرت كثيراً، وعلى خبراء الإدارة أن يولوا كتبهم بعض العناية بالتنقيح والتحديث، وإلَّا فلا أحد سيهتم بكلِّ الفصول التي تتعلَّق بالمقابلة وأسئلتها الاستفزازية، وقد ضربت هذه اللجنة عرض الحائط بكلِّ ما يتوقَّعوه من أسئلة افتراضيَّة، تلك الأسئلة التي  يقدِّم لها خبراء التوظيف إجابات افتراضيَّة مثلها ثمَّ ينصحونك بأن لا تستخدمها، إذاً الأمر أبسط ممَّا يصوّرونه لك.
      الآن عليَّ أن يهنِّئ نفسه مقدَّماً على الرغم من أنه لم يجتز الكشف الطبيَّ، ولكن بناء على خبرته السابقة بالكشف الطبيِّ في هذه الشركة يقول بثقة: إنَّه لن يستغرق سوى دقائق معدودات وإن كان مصحوباً في الغالب بشيء من الفحوصات الروتينيَّة. دلف إلى حجرة الطبيب فتلقَّاه باشَّاً كأنَّه كان في انتظاري، وربما كان مزاجه رائقاً اليوم، لا يبدو على عجل من أمره كالمرَّة السابقة، هذا ما استنتجه إياد من مقارنته بين طريقتي كشفه عليه سابقاً والآن، لا يدري لِمَ يوليه كلَّ هذا الاهتمام في كشفه عليه الآن، ربما يرجع هذا إلى أنَّه الآن في مرتبة العامل الدائم، وقد اجتاز مرتبة العامل المؤقَّت، فبهذا يمكن تفسير فارق التوقيت بين زمني الكشفين الطبيَّين لنفس الطبيب على نفس الحالة(يعني نفسه). دار كلُّ هذا بخلد إياد وهو يستلم نتيجة الفحص المعمليِّ، فهو واثق من أنَّها ستكون جيَّدة، لأنه يتمتَّع بصحَّة جيَّدة، كما أنَّ سلوكه قويم ولا فخر، ولا يتعاطى المخدرات، ولم يتعرَّض لنقل دم من قبل والحمد لله، لذلك يتوقع أن ينهي هذا الطبيب الأمر بمهر ملفِّه بتوقيعه بعد أن يكتب عليه عبارة(لائق طبيَّاً). طالع الطبيب نتائج الفحوصات ثم التفت إلييه قائلاً:
نتائج فحوصاتك جيَّدة، ولكن تبقَّى إجراء كشف أخير عليك، نسيته من قبل، لا تقلق فلن يأخذ منك وقتاً طويلاً، ألا وهو الكشف على أسنانك.
     إذا استثنينا كلَّ هذه المضيعة للوقت، وتجاوزنا عن هذه القائمة العشريَّة من الفحوصات- فقوله (لا تقلق) وحده يجعله يشعر بالقلق أكثر من أيِّ وقت مضى، ويثير في عقله كثيراً من الأسئلة، لِمَ يماطل هذا الطبيب؟ وعلام  يتردَّد عن كتابة عبارة (لائق طبيَّا)؟ وهي عبارة أصبح يستحقها الآن عن جدارة، ولكن من يقنع هذا الطبيب الذي يصرُّ على تفقد كلِّ شبرٍ من جسده، كأنَّما يبحث عن شيء ما، ويتوقَّع أن يجده في فمه بعد أن بحث عنه في صدره وبطنه وبصره، بصراحة لم يستسغ كشف الأسنان هذا، ولم يجد له مبرِّراً أبداً مهما حاول ذلك، قد يتفهم أن يتفحّص الطبيب بصره وصدره وجزعه وأطرافه؛ لأنَّ لسلامة هذه الأعضاء علاقة ما بالعمل في مصنع الغزل والنسيج، ولكن ما لن يتفهمه وجود علاقة بين سلامة الأسنان والعمل في هذه الشركة، إذ لا أتوقَّع أن يحتاج إلى مهارة استخدام الأسنان في هذا المصنع، ولكن يبدو أنه كنت مخطئاً في ظنه هذا، لقد عرف الآن أهميَّة هذا الكشف في الحجرة المجاورة عند طبيب الأسنان، والذي انخرط في عمليَّة الكشف على أسنانه بكلِّ حماس، يبدو أنَّ هذا الطبيب يحبُّ عمله بالفعل، وربَّما مرَّ عليه وقت طويل لم يمارس فيها هذه الهواية المفضلة، وقد صار يذرع بنوره الساطع ردهات فمه، ويتبختر بين صفوف أسنانه وأضراسه، ليتوقف بين الفينة والأخرى عند سنٍّ أو ضرس ما، حتى توقَّف عند ضرس بعينه، وحينها عرف إياد أنَّه قد وجد شيئاً يستحق الوقوف عنده، لقد وجد ضرسه الذي بدأ السوس بالنخر فيه، نقر عليه نقرة خفيفة ثم ابتسم وهو يقول:
لديك ضرس متآكل وعليك خلعه فوراً.
     هذا الطبيب يبالغ قليلاً، فضرسه قد أصابه التسوس فعلاً، ولكنه ليس متآكلاً تماماً كما يقول، فلا هو يؤلمه فعلاً، ولا تسيل الدماء من جذوره أبداً، يبدو أنه كان مغالياً في تقدير خبرة هذا الطبيب، هاهو يخيِّب ظنه فيه إذ يذهب إلى الخيار الأخير خيار الخلع، وقد قال إياد محتجَّا: 
هذا الضرس الذي تصرُّ على خلعه كان على هذه الحال منذ العام الماضي، ومع ذلك لم يؤثِّر وجوده على معدلات الإنتاج في المصنع، كما أن خيوط النسيج لم تعلق يوماً به، فما الداعي إلى خلعه الآن؟ ألا توجد خيارات أخرى؟
     يبدو أنَّه كان يتوقَّع ذلك فقد تفضَّل بإعطائه محاضرة عن صحة الأسنان، وفاتورة العلاج الغالية، وضرورة خفض الإنفاق للارتقاء بمعدلات الإنتاج، وعن ارتفاع كلفة التأمين الصحيِّ، ومعاناة الدولة في توفير النقد الأجنبي، ليختم تلك المحاضرة بضرورة خلع هذا الضرس الآن. لم تقنع تلك المحاضرة القيَّمة إياد، ومازال متردِّداً في تسليم أمره له، وقد لا حظ تردّده فقال:
إنَّه مجرد ضرس لا غير، فكِّر في الأمر برويَّة، أمامك وظيفة في متناول يدك قد تضيع منك، قليلون هم الذين اجتازوا المقابلة، وقلَّة منهم الذين اجتازوا الكشف الطبيِّ، ليس أمامنا النهار بكامله، يمكنك الانصراف لو أردت.
     لقد لمس وتراً حسَّاساً، لا يمكنني أن يفقد هذه الوظيفة، فهو في حاجة إليها، وخاصة أنه يتجهز للزواج من خطيبته سهير الزيَّات،لذلك فتح فمه في خضوع تام، وشرع في معالجة الضرس بسرعة قبل سريان المخدِّر به، ربما يخشى أن يتراجع عن هذا الخلع، وقد آلمته طريقة معالجته للضرس، فبدأ يلعن الدولة التي تخفض نسبة الصحة في الميزانية عاماً بعد عام، والشركة التي تتقشَّف في الإنفاق على صحة العامل للارتقاء بمعدلات الإنتاج، وأطباء الأسنان الذين يفضلون ممارسة هوايتهم المفضلة والمؤلمة في مثل هذا الركن المنزوي من فمه، ولم يوقف سيل اللعنات إلَّا قوله:
لقد انتهيت.
     قال ذلك وهو يلف الضرس في منديل أبيض بعد أن فرغ من خياطة الجرح، تناوله إياد وهو يحسُّ بوخز الضمير، لم يؤلمه هذا الضرس يوماً ما  ولم يكن في حاجة  لخلعه لولا حاجته الماسَّة إلى هذه الوظيفة، يمكنه أن يحصل على الوظيفة الآن، ولكنني لم يعد متحمِّساً لنيلها، بدأ الإحساس بالخزي يتملَّكه، فهل خلع هذا الطبيب ضرسي فحسب؟ لا يعتقد هذا بل خلع معه كرامته واعتداده بنفسه أيضاً. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(1) (نظريَّة الأستاذ إبراهيم مصطفى)