السقوط: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
السقوط: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
أ. محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود
انتصف الليل أو كاد وظلامه يجثم على صدر القطاع فيستسلم له بخضوع، ولا شيء يتحرك أو يصدر صوتاً باستثناء كلاب تتغزل على طريقتها الخاصة، وقطتان تتشاجران على قطعة لحم مجهولة المصدر، وحمار ينهق وقد أبصر سرباً من الجنون يمرُّ على مقربة منه، وديك انتفض مذعوراً وقد حسب أنَّ الفجر قد أدركه وهو لم يؤذِّن بعد، فيطلق صياحاً عبث التردد بمقاطعه فيخرج واهناً مشتَّتاً. وثمَّت سيارة تنهب الأرض مطفأة المصابيح ، يجلس خلف مقودها رجل ضخم البنية، يرتدي قناعاً أسود، وعلى المقعد الخلفي جلس رجلان لا يقلَّان ضخامة عنه، تتلصص أعينهما عبر القناعين السوداويين، وقد التفتا إلى شخص مكبَّل يجلس بينهما، ويتهامسان بكلمات لا يفهمها الرجل المكبَّل، وحتى إن فهم ما يقولانه فلا يمكنه أن يشاركهما الحديث وشريط لاصق مشدود على فيه، يكاد يكتِّم أنفاسه، كما لا يمكنه تبيُّن ملامحهما وعصابة قويَّة- شدَّت على عينيه - تحول دون ذلك.
تترك السيارة الطريق الساحلي، وتدلف بهم إلى طريق جانبي، ثمَّ تتوقف في مكان ما، يهبط منها الرجلان يقتادان أسيرهما إلى بقايا منزل متهدِّم، يزيح أحدهما بعض أنقاض المنزل المتهدِّم، ثمَّ يشرعون في الهبوط عبر فتحة حرجة الحواف، وتستقر أقدامهم على الأرض، فينحني الرجلان، ويجبر انحناؤهما أسيرهما على الانحناء، ويلتصقان بصفيح بارد، فيفتح لهما باب يدلف منه الجميع وقاماتهم منبسطة، وعلى بعد خطوات من باب النفق فُتِح باب حديدي آخر، دفع الرجلان أسيرهما فيه، ثمَّ أغلقا الباب عليه ومفصلاته تصدر صريراً عالياً يمزِّق صمت المكان وإن كان يبدِّد توحشه.
ولاحقاً صار إياد يألف المكان برطوبته الخانقة وبعوضه المزعج، ونسيم البحر يتسرب إلى محبسه في فترات متباعدة فينعش أمله في فرص البقاء على قيد الحياة، ثم يُنقَّص هذا الأمل عندما يتذكَّر اعترافه بكلِّ جرائمه، وكيف أنَّه يشعر بالخزي والعار أن تختم حياته بعقوبة الإعدام على جريمة الخيانة العظمى، لا يدري كيف سقط في فخ الجاسوسية وهو سليل أسرة مقاومة موغلة الجذور في هذه الأرض التي ارتوت بدماء أجداده، ولا يزال يتذكَّر بطولات جده وأبيه يتناقلها الرواة في المدينة، كما لا يزال يتذكَّر ذلك اليوم الذي قرَّر فيه أن يفتح باباً خفيَّاً للتعامل مع العدو، ولكن الأمر لم يكن كما يبدو على حقيقته كما هو الآن، نعم لم يكن الأمر بهذا الوضوح في ذلك النهار الصيفي الغائط، وذلك لأنَّه حينها كان مشوَّش الفكر وحانقاً على نفسه وعلى والمجتمع، والإحساس بالعجز والقهر وانعدام الكرامة ينخر في عزمه وإحساسه بالانتماء لهذه الأرض.
تربَّعت الشمس في كبد السماء وسياطها الحارة تلهب ظهور جموع المحتشدين على الجانب الفلسطيني من معبر رفح الحدودي، فتزيد من حنقهم وغضبهم، يترجم ذلك عبر سيل من الشتائم وعبارات الوعيد لموظفي المعبر والسلطة التي يمثلونها، ويتخلل حالة الحنق هذه عبارات استجداء واستعطاف المرضى وذويهم لموظفي المعبر، ويمنِّي الكل نفسه بظهور ختم هذا الموظف على جوازه للعبور إلى الجانب الآخر، بينما يبدو الموظف كصنم عتيق متهالك يعجز عن مدِّ يد العون لعابديه، إذ إنَّ الأمر ليس بيده، وإنما هو ومن معه أدوات لتنفيذ أوامر السلطة. وقد توسط إياد جموع الغاضبين يشتم ويلعن حيناً، ويستجدي ويتلطَّف أحياناً أخرى، ثم يعود إلى سيارة الإسعاف ليلقي نظرة على أم جمال، فيرى حالتها تزداد سوء فيزيد ذلك من حنقه، فيخرج هائجاً:
من إي بشر أنتم لا تخافون الله ولا ترحمون عباده؟ ماذا فعلنا لكم حتى تعاملونا بهذه الطريقة المهينة؟
فيهدئ صديقه علاء من روعه:
صبراً أخي لا تقلق ولا تغضب. غداً سيفتح المعبر.. وستخرج أم جمال وتتلقى العلاج.. وتستعيد عافيتها.
على الرغم من أنَّه لا يصدِّق حرفاً مما يقوله صديقه جمال، إلِّا إنَّ عباراته سرَّت عنه، فأشعلت رغبته في الحديث:
أتمنى ذلك يا علاء. ولكنك تعلم أنني قدمت ورق أم جمال في كشف فتح ولم ينفع. كما جربت كشف حماس وكانت النتيجة ذاتها. والآن لنا شهر ونحن نرابط هنا. كملت كل النقود التي عندي.
- هوَّن على نفسك يا أخي. كل شيء وليه دوره. سيأتي هذا الدور قريباً.
وقد صار إياد يشكُّ في مجيء دورهم في العبور، كما يخالجه اليأس من شفاء أم جمال من التهاب الكبد الوبائي، وها هي بطنها تتكوَّر أمامها متصلِّبة كحامل في شهرها التاسع، وجسدها يذبل شيئاً فشيئاً، وقد أوشكت جذوة حياتها على الانطفاء، ولو أنَّ هؤلاء القساة سمحوا لها بالعبور ربما لأنقذها الطب الحديث، فقد رأى حالات مماثلة وأكثر سوء من حالتها تتحسَّن وتستجيب للعلاج، ولكن كيف السبيل إلى العلاج وهذا الحاجز الخرساني عديم القلب يفتح ذراعيه لمرور البهائم والبضائع أكثر مما يسمح بمرور البشر، يبدو أنَّ الترتيب المعتمد للمخلوقات في المعبر هو: حيوان، جماد، إنسان.
أصدرت أمّ جمال سعالاً حاداً وهي تهتف باسمه، فأقبل نحوها، وقد خرج صوتهاً واهناً مشوَّشاً كأنَّه صادر عن مذياع شارفت بطاريته على النفاد:
- نرجع. لا أريد أن أموت هنا. أريد أن أموت في بيتي.
فيحتضنها وهو ينتحب:
- بعد الشر عليك. قد أتى دورنا. سنخرج وستتشفي يا أمي.
ويبدو أنها لم تسمع حرفاً مما قال، وهي تردد قولها:
- نرجع. لا أريد أن أموت هنا. أريد أن أموت في بيتي.
يبدو أنَّها لم تسمع ما قاله إياد، وربما لم تصدِّق منه حرفاً، لذا تكرِّر هذا الكلام الذي يقطِّع فؤاد إياد، ولها الحق في ذلك فهذه هي المرة الحادية والثلاثون التي يقضون فيها جلَّ يومهم مرابطين أمام المعبر، وقد أرهقتها هذه الرحلات اليوميَّة المملَّة، وأمام إصرارها وخشيته من غضبها عليه عاد إياد بها إلى المدينة.
وفي طريق العودة كان صديقه علاء يسرِّي عنه بالحديث:
- فتح تستخرج تصاريح لأصحابها. وحماس تأتي بقوائم طويلة تقول عنها أنها للكل. ولكن هي أيضاً تستخرج تصاريح لأصحابها. هذا أبوه شهيد. وهذه ولدها أسير. دعني أسألك: من هذا الذي ليس أبوه شهيداً ولا أخوه أسيراً.
- إذاً أم جمال تبقى أم الشهداء وبنتهم وزوجة أحدهم. بهذه الحجة أم جمال تستحق أن تخرج وتعود يومياً.
- برأيي أنو الأسرى درجات والشهداء مثلهم. لن ينفع أن يكون أسيراً ولا شهيداً ولا ينتمي لواحدة من الفرقتين. عليه التسجيل أولاً عند فتح أو حماس قبل أن يستشهد أو يقع في الأسر.
وبدا كلام صديقه يزيد حنقه أكثر مما يسرِّي عنه، هل يتعمَّد علاء هذا أم يفعل هذا من غير قصد، ولكن ألا يكون كلامه هذا منطقيَّا، وها هو يرى الانقسام ينكِّد حياة الفلسطينيين، وحالة الاستقطاب الحاد تجعل منهم شعبين فتحاويَّاً وحمساويَّاً لا شعباً فلسطينياً واحداً، ولكلٍّ منهما حججه وأدلَّته على أنَّه محق والآخر على خطأ، ومن الصعب معرفة أيّهما المحق من المخطئ وقد اختلطت الأسباب بالنتائج، ولكن ما يبدو واضحاً أنَّ الوضع يزداد سوء هنا، والحصار الخانق يوقر الصدور، والنفوس الحانقة تقلي وتوشك على الانفجار، لا غذاء لا مأوى لا صحة لا تعليم، من المستحيل أن يحتفظ الإنسان بهدوء أعصابه في هذه الأوضاع المتردِّية. طافت كلُّ هذه الخواطر برأس إياد فزادته حنقاً على كلِّ شيء ويأساً من كلِّ شيء، من الصعب أن يتفاءل الإنسان أو يحتفظ بمعنويات عالية في هذا النفق المظلم من العالم والمسمَّى بقطاع غزَّة.
***************
جلس إياد أمام شاب أشقر يقاربه في العمر، تبدو عليه دلائل الدعة والراحة، وقسمات وجه الوسيم تغري بالتأمل، لو أنَّ لهذا الشاب أختاً فلا شك أنَّها ستجد صعوبة في التفوق على جماله الأخاذ، كما ستتسارع أنفاسها في سبيل الاقتراب من تقليد حركاته التي تدلُّ على الليونة الزائدة التي ترقص أطرافه، وصوته ذو الرنَّة الحادة يشكِّك في بلوغه مبلغ الرجال. وشرع الشاب يصوُّب نظراته إلى عيني إياد مباشرة وكان هذا أمراً مستغرباً منه، إذ لم يتوقَّع إياد أن يكون هذا الشاب بكلِّ هذه النعومة الزائدة ويتمتَّع بعيني نسر جارح، لوهلة اضطرب إياد أمام تلك النظرات الحادَّة، ثم تمالك رباطة جأشه، وبدأ يحدِّق في عيني الفتى، فبدا الأمر كتحدٍّ في مباراة من مباريات بطولة التحديق العالمي، لو أنَّ شيئاً كهذا كان موجوداً، وقد وجد في البداية صعوبة في ذلك، وهو يكتفي بدور الدفاع، ويصدُّ نظرات الفتى، وهو يقول له بعربية مغتصبة كأشياء أخرى تمَّ اغتصابها:
- كيف حالك يا إياد.
قال ذلك ولم يرفع عينيه عن إياد، وإياد يرد نظراته وعلى سؤله: بخير.
- وكيف حال أم جمال.
فاستفزَّ هذا السؤال إياد، من إين لهذا المائع أن يعرف أم جمال حتى يسأل عن حالها؟ وقد همَّ بأن يقلب الطاولة على رأس هذا المخنَّث لولا أن تمالك نفسه بصعوبة، وقد تذكَّر أنَّه هو ومن سعى إلى هذه المقابلة ولم يسعوا هم للقائه، فعليه أن يكون أكثر تعقُّلاً حتى ينال ما يريد، إلَّا أنَّ كلُّ هذا لم يمنعه من أن تحمرَّ عيناه غضباً، وكان لهذا أثره البالغ على تحويل مجرى مباراة التحديق، وقد انتقل من طور الدفاع إلى طور الهجوم، وعينا الشاب تطرفان بسرعة واضطراب واضحين، وأحسَّ إياد بالشعور بالفخر يتردد في ردهات صدره، والشاب يتقزَّم في ناظريه، وبدا صوته واهناً متردداً وهو يحدِّث إياد عن ضرورة السلام للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، وأنَّ أرض فلسطين تسع الجميع لولا أنَّ بعض المتطرفين هنا وهنالك يحولون دون ذلك، وأنَّ هذا السلام يحتاج إلى معلومات عن الذين يعكرون صفوه.
في الوقت الذي كان يتفاوض فيه إياد مع إيزاك جلس ثلاثة رجال أمام شاشة المراقبة في بيت قريب من الكافتريا التي يجرى فيها اللقاء بينهما، وكان باراك أكثر الرجال سعادة، وقد بدا كأم عروس تشهد عرس بنتها البكر، وكيف لا يكون سعيداً وها هو تلميذه إيزاك يطبِّق ما علَّمه له باحترافية معقولة، وإن شابت خطواته بعض الأخطاء الخطرة، فهو مثلاً يركِّز نظراته على وجه إياد، ولا يوزَّع نظراته على قدمي إياد ويديه، وأحيانا يطأطئ رأسه في حياء واضح، وعدم التركيز الجيد على كلِّ حركات العميل قد يكون مصدر خطر في مثل هذه اللقاءات، ولكن مع ذلك يمكن غفران مثل هذه الأخطاء، فهذه هي المرَّة الأولى له، وما يطمئن أكثر أنَّ باراك قد تفحَّص ملف إياد جيداً بنفسه، ومعلوماته لا تشي بخطورته، فهو مجرَّد إنسان حانق من الوضع في القطاع، ويرى أنَّ سلطتي فتح وحماس هما السبب في شقائه وتعقيد حياته، ومع ذلك قد أعدَّ بارك للأمر عدَّته لو حدثت تطورات غير متوقَّعة، فهنالك فريق تدخُّل على أهبة الاستعداد لإنقاذ الموقف، فذلك النادل الذي يحرص على المرور خلف إياد بمبرِّر وبدون مبرِّر يراقب الوضع عن كثب، وذلك الساقي خلف البار والذي يضع سماعة بلوتوث على إذنه اليسرى يستمع إلى كلِّ كلمة من الحوار الدائر بين إياد وإيزاك، وهو قنَّاص ماهر يمكنه أن يردى إياد من موضعه هذا بكلِّ دقة وسرعة، فضلاً عن أنَّ بلاط الكافتريا أسفل مقعد إياد يمكن التحكم فيه آلياً، فينزلق إلى فخ منصوب بعناية أسفله.
لم يصدِّق إياد حرفاً مما يقوله هذا الإسرائيلي، ولولا الظروف الصحيَّة لأم جمال لما اجتمع في مكان ما مع شخص كهذا، ناهيك من أن يتحدَّث معه، ويقنعه بما يقوله، لم يتوقَّع إياد أن ينحدر يوماً إلى هذه الدرجة من السفالة التي تجعله ينسِّق مع العدو، وعلى ذكر التنسيق يتذكَّر أنَّ السلطة الفلسطينيَّة تنسِّق بطريقة مباشرة مع العدو ولا أحد فوَّضها بذلك، وأنَّ حماساً تتفاوض وتعقد صفقات تبادل الأسرى مع العدو بوساطة دوليَّة وإقليميَّة، ولا أحد من الشعب الفلسطيني فوَّضها للقيام بذلك، إذاً الكل ينسِّق ويفاوض ويعقد الصفقات تحت شعار المصلحة العليا للقضية الفلسطينية، فما الذي يمنعه هو من التنسيق والتفاوض وعقد الصفقات؟ صحيح أنَّه ليس عضواً في لجنة مفاوضات مكلَّفة بالتفاوض من سلطة وطنية منبثقة عن اتفاقيَّة دوليَّة، وكذلك لن تحظى صفقته واتفاقيته برعاية جهات دوليَّة أو إقليميَّة، إلَّا أنَّه ابن هذا الشعب، وقد اكتوى بنيران حروبه وخطوبه، ومن حقّه أيضاً أن يكون له نصيب في تلك التفاهمات التي تتمُّ بين الفينة والأخرى، وبما أنَّ مرض أم جمال لا يحقِّق أيَّ مصلحة عليا للقضيَّة الفلسطينيَّة، فكذلك أيضاً علاجها لن يضرُّ جوهر القضيَّة بشيء، ثمَّ أنَّه بعد أن ينال ما يريد لا شيء سيجبره على التعاون معهم. وقد بدا له منطقه قويَّاً لا يتطرَّق إليه الشك والضعف، وبينما هو سادر في هذه الخواطر والأفكار سمع بعضاً من حديث إيزاك عن الدولة الفلسطينية في أراضي 1967م، وشيء عن قضايا الحل النهائي، وعن ميناء ومطار دولي لقطاع غزَّة، وإشراف الأردن على المسجد الأقصى، وعن أهميَّة تبادل المعلومات اللوجستيَّة، لا يدري كيف يربط إيزاك بين كلُّ هذه القضايا وبين ضرورة تعاونه معهم، ولكن ما يهمَّه الآن هو عقد صفقة تسمح بعلاج أم جمال وهذا ما حصل عليه، وعليه أن يؤجِّل مناقشة هذه القضايا إلى مراحل أخرى إن كانت هنالك مراحل أخرى بينهما.
وما لم يعلمه إياد آنذاك ما كان يجري على مقربة منه، اجتماع يقرر كلَّ شيء بشأنه، وفي البيت الآمن يبدي الرجلان الآخران امتعاضهما من الطريقة التي يجري بها اللقاء، فلم يكن أداء إيزاك مقنعاً، ولولا أنَّ هذا العميل يمرُّ بوضع سيء هنالك، وهو على استعداد للتعاون تحت أيِّ مسمّىً كان لما تمكَّن إيزاك من إقناعه، كما أنَّ هذا العميل لو كان ذكيَّاً ويتلاعب بهم، أو لو أنَّ المعلومات عنه كانت مضلِّلة وهو أحد فدائي كتائب القسام، لكانت حياة إيزاك في خبر كان، ولن تفلح كلُّ تدابير الأمان والتدخل السريع في إنقاذه، ولأمثال هؤلاء العملاء تاريخ حافل بقتل الكاتسا في أوضاع أكثر تأميناً من هذا الوضع. وقد وصف باراك زميليه بأنهما مصابان بوسواس مرضيٍّ، فهما يشكَّان في كلِّ شيء، صحيح أنَّ الشك والحذر سمتان غالبتان على طبيعة عملهم، ولكن الغرق في محيط عاصف من الشك يصعب الإبحار فيه ليس أمراً جيداً، فتشكُّك كهذا يضرُّ بالعمل أكثر مما يفيده، ونصحهما بالتركيز على الجانب الجيِّد من هذا اللقاء، فأنّهم كسبوا عميلاً، واكتسب ضابطهم الناشئ خبرة عمليَّة، وأنَّ العمليَّة مرَّت بسلام وهدوء وهذا هو المهمُّ أولاً وأخيراً.
وقد حصل إياد على ما أراد، وسمح له بالعبور عبر معبر بيت حانون، وعلى الرغم من تعرَّضه لمضايقات من الإسرائيليين، وتعمدهم إذلاله هو وأم جمال، وقد أجبرا على السير على الأقدام من الجانب الفلسطيني للمعبر إلى الجانب الآخر منه، فضلاً عن تعرّضهما للتفتيش الذاتيِّ، هذا على الرغم من تردِّي الحالة الصحيَّة لأم جمال، وبطن أم جمال بارز أمامها بصورة تثير الشك في نفس أقل الجنود تشكُّكاً. وهنالك في مستشفى الشفاء في عمَّان بدأت أم جمال تستجيب للعلاج، وبطنها يتراجع إلى حجم معقول كحمل كاذب تمَّ الكشف عنه قريباً، فذاب تحت شعور صاحبته بالخيبة والإخفاق، وفي الوقت الذي كانت فيه أم جمال تتماثل للشفاء كان هنالك ثمة أصدقاء يزورونه فيستأذنها في الخروج معهم، فتأذن له وقد أحسَّت بدبيب العافية يسري في عروقها وأوصالها، وصار يعود ورائحة كرائحة التفاح العطن تفوح من فمه وترشح مع عرقه، ولولا أنَّها تعرف سلوك إياد جيَّدا وأنَّها ربته بيديها، ومن قبل أرضعته من ثدييها لشكَّت في أنَّه يعاقر الخمر.
وعقب عودتهم إلى القطاع بدأ إياد يشعر بشيء من الندم، وللإحساس بالذنب ووخزات كإبر حادة تخترق فؤاده، فيزيد أرقه، وينعكس هذا كلُّ على جسده الناحل فيكاد يفضحه، فكَّر أكثر من مرة في الاعتراف للسلطة وليفعلوا به ما يشاءوا، ولكن يتراجع في آخر لحظة لأنَّه يعلم أنَّ الأمر لن يتوقَّف عليه فحسب، بل سيتجاوزه ليسيء إلى سمعة أسرته وتاريخها الحافل بالبطولات والتضحيات، وليس من العدل أن يتلوث ذلك البحر النضالي ببقعة خيانة صغيرة صدرت من أحد أفراد جيله الثالث في ظروف لم تكن في صالحه، علم أنَّه لا أحد سيغفر له ذلك لا السلطة ولا أسرته، فلِمَ يعترف على نفسه وهو حتى الآن لم يتورَّط في شيء؟ ولم يطلب منه شيء يضرُّ أحداً بعد.
ونسي إياد الأمر شيئاً فشيئاً، والشعور بالندم يتراجع إلى حدود ضيقة، فلا يكاد يحسُّ به إلَّا في فترات متباعدة وعابرة، ومع تسارع الأيام بدأ إياد متيقناً من أنَّهم قد نسوه، أو أنَّهم قد ألغوا عمليَّة تجنيده من الأصل، وحسناً فعلوا ذلك لأنَّه لم يكن على الاستعداد على التعاون معهم، ولا أحد يملك إرغامه على فعل ما لا يريد فعله.
حتى رنَّ هاتف إياد ذات يوم فألقى نظرة على الشاشة وإذا برقم غريب يطالعه على الشاشة، أوشك إياد أن يتجاهله، فليس من عادته الاهتمام بتلقي مكالمات من أرقام غير مسجَّلة بسجل الهاتف، ولكن شيء من الفضول جعله يضغط على زر الإجابة، وإذا صوت عميق شبه آلي يخاطبه
- سلام يا ود أم جمال..أخبارك وأمورك.
انتفض جسد إياد بعنف لأنَّه لا أحد يناديه بهذا الاسم إلَّا شخصاً واحداً، شخص لا يرغب في مكالمته أو لقائه، شخص حسب إياد أنَّه قد ضلل أثره منه منذ وقت بعيد، ويبدو أنَّه قد عاد يطارده من جديد، وانتزعه الصوت الشبه آليّ من شروده:
وهو يخبره بضرورة لقائه الآن، وإذا برجل يصطدم بإياد فيرفع إياد قبضته محاولاً ضربه، إلَّا أنَّ الرجل استمر في طريقه وقد همس له بأن يتبعه.
تعليقات
إرسال تعليق