ليلة تحت القصف: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
ليلة تحت القصف: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود
أقبل الليل ملتحفاً عباءته السوداء، طامساً لوحة القطاع بفرشاته السوداء، يتخلَّله وميض القنابل التي تنهمر على دفعات متقاربة، فيتداخل دوي القنابل بسارينات سيارات الإسعاف وأصوات انهيارات المنازل. ثمَّة بيت في أطراف القطاع ينبعث منه بصيص ضوء، بالداخل امرأة في العقد الثاني من عمرها ذات وجه طفولي وجسد ناحل أنهكته آلام الطلق، وعبثت بملامحه أمراض سوء التغذية، يبدو طلقها حاراً إلَّا أنَّ قواها الخائرة تخذلها فتعجز عن دفع الجنين إلى خارج الرحم، ذلك على الرغم من حثِّ النساء لها على الصبر وحسن البلاء، ولكن يبدو أنَّها فعلت أقصى ما تستطيع فعله، وقد بدأت تحسُّ بأنَّ جسدها يسترخي، بل شعرت بشيء غريب، وقد وجدت أنَّها صارت تتخفَّف من جسدها كمن يخلع عنه العباءة بعد عناء سفر شاقٍّ في نهار صيفيٍّ غائط، وثمة تيار بارد ينبعث من أسفلها، كأنَّ مكيِّفاً ضخماً وضع أسفل قدميها، وتتثاقل عيناها كأنَّ هنالك من يهيل عليهما كثيباً من الرمال الناعمة، تبدي المقاومة، فيزيد ذلك من تثاقل عينيها، فتستسلم لهذا الشعور. تصرخ النسوة حولها، وقد لاحظن عليها بوادر الإغماء، وجسدها البارد يوحي أنَّها ليست بخير، تمسك أحداهن بقدميها فتدلكهما، فيلسعانها كقضيبين من الثلج، فيعلو نحيبها، الآن علمت نوال أنَّ صديقة عمرها سعاد في طريقها إلى عالم آخر، لو كانت الأمور على ما يرام لأسعفنها إلى مستشفى غزة، إلا إنَّ ظروف الحرب الدائرة تجعل من إسعاف حالة ولادة متعسِّرة ترفاً يصعب توفيره الآن، عليها أن تسعف نفسها بنفسها وإلا فلترحل بهدوء، فالجميع في طريقه إلى هنالك وإن اختلفت مواقيت الرحيل.
أشارت سعاد بيدها إلى أسفل جسدها، فاتجهن بأنظارهنَّ إلى حيث أشارت في نفس اللحظة، فكانت إشارتها سؤلاً حائراً هل قدم المولود، فانهمرت دموعهن ولا مولود يبدو في الأفق، فابتسمت لهن ودمعة حارة تقطر من عينها اليمنى وتنحدر إلى طرف الوسادة أسفل رأسها، فزاد ذلك من بكائهن، وإذا بها تنظر إلى نقطة ما في أعلى السقف، وتتراءى لها أجسام بيضاء مضيئة تتسرَّب من تلك النقطة، يصعب تحديد ملامح تلك الأجسام، إلَّا أنَّ سيماها يبعث في النفس شعوراً دافئاً من الارتياح والألفة، ثمَّ أبصرت سعاد عروساً بيضاء البشرة، بضَّة الجسم، وضيئة الوجه، تشع فرحة طفوليَّة من عينيها، تتلألأ ابتسامة مشرقة بين شفتيها الدقيقتين، فتفترَّان عن أسنان متلألئة كحبَّات لؤلؤ صفَّت على حرير مخمليٍّ أسود، يزيدها فستان الزفاف إشراقاً وبهاء، وطفلتان قريرتان كعيني ظبي نفور تحملان ذيل الفستان، وهي تسرع بهما، فتتعثَّر خطواتهما في محاولة اللحاق بها، فتبدوان وذيل الفستان كبقايا ذيل مُذَنَّب يشقُّ طريقه مسرعاً نحو الشمس غير عابئ بذيله الثلجيّ المتمدِّد خلفه، كلُّ هذا وإحساس يراود سعاد بأنّها تعرف هذه العروس، قد رأتها في مكان ما لا تدري ما هو ذلك المكان، ثمَّ بدأت تقترب منها شيئاً فشيئاً، وشعور سعاد بأنَّها تعرف هذه العروس يزداد أكثر فأكثر، وأخيراً عرفت من تكون هذه العروس، إنَّها هي نفسها! ولكن كيف؟ فأطلقت سعاد صرخة مكتومة امتزج فيها الخوف بالدهشة، فبدت لها كأنَّ الصرخة صدرت من فيها ولكنها اتجهت منه إلى رئتيها، فانتفض صدرها بشدَّة، فألقت نوال بجسدها عليها مطيحة بطفلها جمال -ذي الحول الواحد- من حجرها، فتدحرج الرضيع على الأرض وقطعة من الخبز مبلَّلة بريقه سقطت بجواره، وإذا بِدويٌ عاصف للقنابل يرتجُّ له المكان، أعقبه صوت انهيار للمباني، وقد خطر لنوال بأنَّ هذه القنابل قد سقطت على منزلها بالذات، هذا وقد أحسَّت ببرودة قاسية في بطنها وبجفاف حاد في حلقها، وبضبابية في الرؤية تلقي ظلالاً على الأشياء حولها، وإذ برأسها يدور بقوة كترس صغير في ماكينة جديدة تمَّ تشحيمها بعناية، وقد عجزت قدماها عن حملها، وقد أصبحتا كخرقتين باليتين تتلاعب بهما ريح عاصف، فينتفض جسدها بعنف، فتسرى كهرباؤها الكيمائية إلى جسد سعاد تحتها، فتبادلها الانتفاض بعنف أكبر، وإذا بسائل حار لزج يبلل فخذي نوال ويسيل إلى قدميها، والنسوة يدحرجنها بعيداً عن جسد سعاد، حتى أنَّها لم تلاحظ أنَّ النسوة وقد أولدن سعاد توأماً، لا أحد يدري ما الذي دفع بهما الآن وقد استعصيا من قبل، كما لم يتوقع أحد أن يكون حملها توأماً، إذ إنَّ سعاد لم تخبرهن من قبل، ولا بطنها الضامر كان يشي بذلك، وتقطع رقية النجار حبل الدهشة والحبل السري في آن واحد، ثم تهرع النساء في إعانتها، وقد بدت سعاد ونوال منهكتين، فلو لم يدقِّق الناظر لحسب أن السيدتين قد وضعتا المولودين معاً.
تعليقات
إرسال تعليق