العشاء الأخير: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
العشاء الأخير: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود
التفت أسرة رابين حول مائدة العشاء، وبريق السعادة يتألق في عيني رابين وزوجته كيفيرا حاييم، وهو يقول:
- نسور الجو نفذوا اليوم أكثر من مائتي طلعة. أتمنى أن يأتي يوم نتخلص فيه من هؤلاء الأغيار.
فترد زوجته في ملل:
- لا أظن أن ذلك اليوم سيأتي.. ستكمل ذخائركم قبل أن تقضوا عليهم.
يومئ رابين برأسه موافقاً زوجته على رأيها، لقد صدقت فيما قالت، فهو أكثر من يعلم ذلك جيداً، وقد كان لهم قائد يصف هؤلاء الفلسطينيين بالنبت الشيطاني، الذي يخالف في وجوده كل قواعد العقل والمنطق، فإذا كان العالم يتزايد بمتوالية هندسيَّة فهؤلاء الفلسطينيون يتزايدون بمتوالية سرطانيَّ
خبيثة، اقتل فلسطينيَّا واحداً يظهر لك عشر، اقتل عشراً منهم ينبت لك ألف منهم، اقتل ألفاً فلن تجد لك موضعاً تقضي فيه حاجتك. ولا يزال رابين يتذكَّر كم من الفلسطينيين قتلهم هو بنفسه عندما كان جنديًّاً في الجيش الإسرائيلي، فيرتعش طرباً لذكرى تلك الأيام الخوالي، وقد عاد بخياله إلى حرب 1956م، وقد اجتاحت كتيبتهم قرية خانيونس، ولم يجدوا بها مقاومة تذكر من قبل الفلسطينيين والجنود المصريين، وقد كان للمنشورات التي ألقتها الطائرات أثرها البالغ في تخفيف حدَّة المواجهات، ولكن مع ذلك توغلت الكتيبة بآلياتها بحذر شديد في شوارع المخيَّم، حتى أحكموا السيطرة على مداخل ومخارج المخيَّم، وقد خطب فيهم قائدهم شامير خطبة عصماء لا يزال وقع كلماتها وسكتاته البليغة يترددان في أذنيه كأنَّه يسمعها منه الآن، ذلك على الرغم من أنَّه نسى كثيراً من تفاصيلها، ولكنه يتذكَّر أنَّ شامير شحذ هممهم بتذكيرهم بالأسر البابليِّ، وبقصة الخروج الكبير، وبمحرقة ألمانيا، وحذَّرهم من الرأفة بعدوّهم، وقد سأل أحد الجنود المستجدين عن إمكانية قتل الأطفال، فحدجه شامير بنظرة نارية غاضبة جعلته يرتجف، ثمَّ عرج في خطبته إلى كيفية التعامل مع العدو، وأنَّ تعليماته واضحة وصريحة بهذا الخصوص، اقتل كلَّ شيء يتحرَّك، لا تكترث للنوع ولا للمرحلة العمريَّة، هذا ما كان يطبَّق علينا في السابق، وعلينا القصاص لأنفسنا، وختم خطبته مخاطباً الجندي صاحب السؤال بأنَّه بالذات يجب أن يعرض عليه في آخر النهار قائمة قتلاه، ويجب أن تحتوي القائمة على فئات عمريّة مختلفة من الذكور والإناث، وقد راقت فكرة القائمة لأفراد الكتيبة فتعالت صيحاتهم بالحماس والتأييد.
تدافع الفلسطينيون إلى خارج بيوتهم زرافاتاً ووحداناً استجابة لمكبرات الصوت التي تأمرهم بالخروج، وفكرة القوائم تسيطر على عقل رابين وعقول رفقائه وهم يصفُّون السكان على حائط القلعة، وبدأ حفل الشواء كما كان يسميه رابين ورفقائه، وقد كان الجندي المستجدُّ بجوار رابين وهو بادي الاضطراب، فداعبه ربين بأن أمره بإطلاق النار على الذين يكون ترتيبهم عدداً فردياً، بينما سيقوم هو بإطلاق النار على ذوي الترتيب الزوجيِّ، ويبدو أنَّ المستجدَّ كان على استعداد تامّ للحفل خلافاً لما يبدو عليه، وقد بدأ يحصد الصف برصاص رشَّاشه في حماس واضح، وقد استطاع أن يحصل على قائمة ممتازة تستهوي أي محلِّل إحصائي. وفكرة القائمة هي التي دفعت رابين إلى البحث في بيوت المخيَّم، فقد كان ينقص قائمته صنفاً مهمَّاً ألا وهو فتاة بين التاسعة والثالثة عشرة، وتمنَّى لو يحصل عليها حتى يقدِّم قائمة يفخر بتقديمها، وأخيراً وجدها وكانت فرصة أهدتها له السماء، وقد وصل إليها قبل رفاقه، وقد حاولت والدة الطفلة أن تستجديه وقد ركعت تحت قدميه، تتوسَّل إليه أن يقتلها هي ويترك ابنتها، فهي صغيرة ومريضة ولا ضرر منها، بينما الفتاة تنظر إليه ببرود، وكأنَّ الأمر لا يعنيها، وقد راقته هذه النظرة المتحدِّية من تلك الفتاة، وقد همَّ بأن يتركها ويقتل أمها، ولكنه لم يفعل لأنَّه تذكر أنَّ قائمته لا تتسع إلَّا لها، فأطلق رشقة من رشاشه أردت الفتاة وأمَّها معاً، وقد زادت قائمته عنصراً مكرَّراً، ولكنها زيادة طفيفة ومبرَّرة، وقد أحسَّ بشيء من الأسف لمقتل تلك الفتاة، ولكن لم يكن الذنب ذنبها ولا ذنبه هو، فلتعلن حظها العاثر الذي ألقى بها هنا، ولتعلن فكرة القوائم ومن كان ورائها.
انتزعت أصوات صفارات الإنذار رابين من شروده الذهني في رحلته التاريخية عبر دهاليز ذاكرته الصلبة، فحاول الهرب وهو يسابق أفراد سرته إلى الملجأ، بينما صاروخ القسام يتهادى في خيلاء في سماء المستوطنة وهو يلوح بلسانه هازئاً ببرنامج القبَّة الحديديَّة ومضادات الصواريخ التي تنطلق خلفه. يصل ديفيد ابنه إلى الملجئ وفي إثره زوجته كيفيرا، بينما سقط رابين متعثِّراً بقدم المائدة، ليسقط على وجهه وكأس الشراب يتشظى في يده، ولسانه يلعق ما سال من الشراب على أرضية الغرفة، ومزيج من النشوة والخوف يزلزل كيانه، فيشلُّ حركته، يحاول الوقوف على قدميه، فتنزلقان، فيسقط على الأرض مستلقياً على ظهره، وإذا بأصوات بشريَّة تأتي من مكان بعيد تتناهى إلى مسمعيه، يحاول الإنصات مركِّزاً في ذلك وقد نسى صفارات الإنذار، وثمَّة نقطة ضوئيَّة متوهجة تتراءى لناظريه، والأصوات البشريَّة تقترب منه رويدا رويداً، والنقطة الضوئيَّة تبدو ملامحها شيئاً فشيئاً، فتظهر في شكل كتلة ناريَّة حمراء لها ألف ذراع، كل ذراع منها بحجم مختلف، ولها أكثر من ألف وجهه، كل وجه له سحنة مختلفة، وتشي هذه الوجوه بمراحل عمريَّة متباينة، وكلُّ وجه يصرخ بصوت مختلف، لا يدري من أين يأتون بكلِّ هذه الصرخات المتعدِّدة، يخالج رابين أحساس بأنَّه قد نبتتْ له ألف أذن في جسده فجأة، تستقبل كل منها صرخة مختلفة تقطَّع نياط القلوب، وبدا له أن يعرف هذه الوجوه، كما أنَّ هذه الصرخات تبدو له مألوفة، قد رأى هذه الوجوه وسمع صرخاتها هذه في مكان ما من قبل. ولأوَّل مرة في حياته يحسُّ بالضعف والخوف يعتصران قلبه، فتدور عيناه في محجريهما، ومن بين تلك الوجوه برز وجه كان أكثر إرعاباً لرابين وهو المُرعَب أصلاً، كان وجه فتاة في الثالثة عشر من عمرها، وقد صوَّبت نظراتها كشعاعين من الليزر يخترقان عينيه كضوء كشافة قويَّة أضيئت في وجه جندي يرتدي نظارة الرؤية الليلية، والصرخات المنبعثة من الوجوه المحيطة بها تثقب أذنيه كدوي مئة مدفع في آن واحد، وعلى ذكر المدافع لهيب خفي يشوي وجهه، ليختفي كلُّ هذا بغتة ويبدو له رأس الصاروخ متجهاً إليه، كأنمَّا هو مُعَنْوَن له بالاسم، وهو الذي كان يقلِّل من شأن قدرة هذه الصواريخ أمام أصدقائه وأسرته ويصفها بالعبثيَّة والبائسة، الآن فقط يدرك أنَّ هؤلاء القوم قد سئموا من أداء دور الضحيَّة، وآن لهم أن يتبادلوا معنا دور الجلاد. ارتطم المقذوف الصاروخين برابين، ولم يعد تعداد الإسرائيليين على ما كان عليه بالأمس، وقد نقص العدد واحداً، وهذا رقم ستحاول الرواية الرسميَّة إنكاره، كما أنه رقم سيكلِّف الدولة كثيراً في سبيل تعويضه.
*************
أشرقت الشمس بوجه أحمر عبوس أشبه بوجه شخص سهر الليل وغفا قبيل الفجر، فأرسلت بعضاً من أشعتها الذهبية في تثاؤب وملل، وهي تشيح بوجهها بعيداً عن مكنون هذا الدمار الذي بات يلتهم معالم القطاع، وها هي تشققُّ ما تبقى من ستارة الليل، كاشفة عن أنقاض المباني، كأنَّ زلزالاً بقوِّة تسع درجات على مقياس ريختر عصف بالأرض وما عليها، وما زالت محاولات البحث عن ناجين تحت الأنقاض جارية على قدم وساق، وقد اكتسب الباحثون تحت الأنقاض خبرة معقولة من تجاربهم السابقة، لذلك بدوا وكأنَّهم يمارسون عملاً شيِّقاً باحترافيَّة ومهارة واضحتين، وعلى الجانب الآخر من الحي بدأت مراسم التشييع الجماعيَّة تتراص في صفوف طويلة إلى مقبرة، من يبصر المشيِّعين يحسب أنَّهم لم يتركوا خلفهم من يبحث تحت الأنقاض عن الناجين، ومن يبصر عدد الباحثين تحت الأنقاض يطمئن إلى أنَّهم سيفرغون من الأمر قبيل انتصاف النهار، يبدو أنَّ أهل القطاع قد تعوَّدوا على ذلك، غالباً ما يقضون فصل الصيف في حفر القبور ودفن الشهداء، ثمَّ يقضون بقيَّة الفصول الأخرى في إعمار ما خرَّبته الحرب، فهم أشبه بكوكبة من الأطفال الوديعين يبنون بيوتهم على الشاطئ، وثمة طفل متنمِّر يبعثر بقدميه في لحظات ما بنوه في ساعات، وما أن يغفل عنهم حتى يعودوا إلى البناء من جديد على أمل أن لا يأتي إليهم مجدداً، فلا المتنمِّر كفُّ عن هدِّ بيوتهم بقدميه، ولا هم كفُّوا عن إعادة تشيدها، حتى صار ما يقوم به جزء أصيلاً من اللعبة التي ألفوها وألفها.
فرقة من فرق الإنقاذ الباحثة عن الناجين تحت الأنقاض بدأت عملها في رفع أنقاض منزل غسان زوج نوال، وذلك بمعاونة الجيران والمتطوعين، إلا إنَّ المهمَّة لم تكن سهلة، ونوال تقطع القلوب بنواحها وهي تقلب الأحجار بجنون، والنسوة يحاولن عبثاً جرَّها بعيدا عن الأنقاض، وقبيل الظهر تمكَّن الرجال من استخرج جثة أم غسان حماة نوال، وقد وجدوها ملتصقة بكرسيها المتحرِّك، ومع استمرار عمليَّة البحث وتطاول الوقت بدت نوال تستعيد توازنها، فليست هذه المرة الأولى التي تفقد فيها عزيزاً في الحرب، ففي الحرب السابقة استشهد أخوها على مشارف القطاع في اشتباك مع قوات الاحتلال، في الوقت الذي استشهد فيها أبوها تحت الأنقاض ونجت هي بأعجوبة. وأخيراً تمكَّن الرجال من انتشال جثَّة غسَّان من تحت الأنقاض، فألقت نوال بنفسها عليه، والنسوة يحاولن تخليص الجثة منها عبثا، وبصعوبة بالغة خلصَّن الجثة منها، وحملت إلى بيت صديقتها سعاد، في الوقت الذي فرغت فيه أم عياد من غسل جثة سعاد وتطيبها، وانطلقت مسيرة تشيع الجثث الثلاث جثتي غسَّان وأمه وجثة سعاد، اجتمعوا في موكب التشييع كما جمعتهم صلة الجوار والقرابة من قبل، والآن يجمع بينهم الموت وإن اختلفت أسباب الوفاة. وفي الداخل استلقت نوال على أحد جانبي سرير سعاد، وقد عصبت رأسها من صداع رهيب له وقع عشرة مطارق في آن واحد، وبصوت مبحوح سألت عن التوأم وهي تسمع بكاؤهما ولا تراهما، فقربنهما منها، وأخبرنها عبثاً حاولن إرضاعهما فلم يرضعا ولم يكفَّا عن البكاء حتى خشين عليهما من الهلاك. ووضعت نوال جمال بجانبها وقرَّبت التوأم من صدرها، فبدا التوأم كأنَّهما يسلكان طريقاً مألوفة لديهما، فلم يضلا طريقهما إلى ثدي نوال، كما لم يترددا في رضاعة الضرع للحظة واحدة، بينما صرخات جمال تملأ الغرفة، فيزيد ذلك التوأم التصاقاً بالثدي.
وهنالك على بُعد كيلومترات من الحي وبالتحديد في مستوطنة سيدروت بدأت إجراءات تشييع جثمان رابين، وأفراد أسرته يرتدون السواد، وقد أطلَّت نظرة مزجاة من الحزن والغضب العارم من عيني الأرملة الجديدة، وقد بدا شقيقها منشغلاً بالحديث عن ترتيبات الجنازة مع رجل يرتدي بدلة سوداء أنيقة، وقيل أنَّه مسئول أمني رفيع في الموساد، وقد كان صديقاً لرابين، وجمعتهما رفقة الدرب والسلاح، هذا وثمَّة فريق عسكري بدأ مهمَّة جمع حطام الصاروخ من أرجاء البيت، ثم أقبل صاحب البدلة السوداء نحو سارة يواسيها في فقدها، وهي ظاهرة الحزن والتأثر وقد فقدت قدوتها وفاكهة حياتها، وقد كان الأقرب إلى قلبها وأكثر الناس اهتماماً بشأنها، وقد كانت تجد لذة في الجلوس معه، ولم تملّ من الإنصات إلى بطولاته الخارقة، ومما يلقيه من دعابات ساخرة، الآن كلُّ هذا لن يكون له وجود بعد الآن، وقد أظلمت سيدروت في ناظريها وقد فقدت إنسانا عينيها، وبدا وجه البيت كئيباً بشعاً بعد رحيل رابين، لن تبقى يوماً واحداً هنا بعد، وقد صارحت صديقها إيزاك بهذا، فنصحها بعدم الرحيل عارضاً عليها المساعدة، ولم تفلح توسلاته ودموعه في ثنيها عن الرحيل.
وحمل جثمان رابين في تابوت أعدَّ خصيصاً له، وقد جمعت في (الطاليت) أجزاء جسمه المبعثرة مع الجزء الرئيس من جثته، وقد وتأخَّر تشييع الجثمان بسبب عدم عثورهم على الأصبع الوسطى من يده اليمنى، وفي النهاية قرروا دفنه حتى ولو لم يجدوا تلك الأصبع، وذلك لتأخَّر مراسم التشيع بسببه.
تعليقات
إرسال تعليق