إستراتيجيات خطاب (طوفان الأقصى)
إستراتيجيات خطاب (طوفان الأقصى)
محمَّد إبراهيم محمَّد عمر همَّد محمود
الخطاب لغة واصطلاحاً
يأتي الخطاب والمخاطبة في اللغة بمعنى المراجعة في الكلام، والمشاورة،(1) أما في الاصطلاح فله عدة تعريفات متقاربة منها:
1. تعريف الآمدي: "اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه.".(2)
2. الخطاب هو"كل منطوق به موجه إلى الغير بغض إفهامه مقصوداً مفهوماً.".(3)
3. الخطاب هو "أي منطوق أو فصل كلامي يفترض وجود راوٍ ومستمع وفي نية الراوي التأثير على المستمع بطريقة ما.".(4)
4. الخطاب هو ما"يتكون من وحدة لغوية قوامها سلسلة من الجمل.".(5)
يلاحظ في التعريفات أعلاه أنها تتفق في كونها تقصد بالخطاب كل كلام موجه من شخص لآخر بقصد إفهامه أمراً ما، وهذا يعني أنَّ كل خطاب يتكون من راوٍ ومستمع ومضمون يريد الرواي إفهامه المستمع. وبناء على ذلك تعتمد الدراسة على ما جاء في تلك التعريفات للخطاب، فتقصد به كل ما صدر من كلام موجه للغير عن جهة رسمية تمثل أي جانب من الجانبين( المقاومة، وسلطة الاحتلال)، سواء أكان ذلك جملة واحدة أو أكثر.
أما إستراتيجيات الخطاب فهي السبل التي يسلكلها المتكلم في تعبيره عن المضمون الذي يريد إيصاله للمخاطَب، وما يستخدمه في ذلك من علامات لغوية أو غير لغوية وفقاً لمقتضى سياق الخطاب.(6) أنواع الخطاب
يمثل الخطاب مظهراً من مظاهر السلطة في النظام الاجتماعي، فعن طريقه تتحكم النخب في السيطرة على مقاليد الأمور عن طريق القوى الإنجازية من أوامر وتهديدات وقوانين وأنظمة وتعليمات، وأحياناً في شكل نصائح وتوجيهات، وبالجملة للخطاب دور كبير في ترسيخ السلطة وفرضها في حال السلم والاستقرار، كما يؤدي دوراً أكثر أهمية في الحروب والكوارث، حيث يستخدم في توجيه الجماهير وقيادتهم نحو تحقيق الغايات المقصودة، وعن طريق الخطاب يمكن فرض وجهة نظر السلطة أو رأيها في أمر معين، وذلك من خلال أدوات وحيل لغوية كالتلاعب والتهديد والترغيب والترهيب،(7) وللخطاب عدَة أنواع وفقاً لطبيعة المخاطب الموجه إليه، ودرجة قربه الافتراضي من المُخاطِب، وتندرج تلك الأنواع تحت نوعين رئيسيين هما: خطاب الداخل، وخطاب الخارج.
الخطاب الداخلي
هو الخطاب الموجه إلى الجمهور الذي تتولى السلطة السيطرة السياسية عليه، وعن طريقه تقوم السلطة بمحاولة تطويعه وتشكيل مفاهيمه وآرائه تجاه الأحداث الجارية، وذلك حتى يكون الجمهور سنداً وداعماً للسلطة فيما تتخذه من قرارات قد تتأثر بها مصالحه، وذلك كما في أوقات الحرب، حيث أدى الخطاب الداخلي دوراً مهماً في توحيد الجبهة الداخلية، وتوجيهها نحو تأييد الحرب، وذلك عبر عدة إستراتيجيات خطابية، ويمكن تفصيل ذلك كما يلي:
إستراتيجيات الخطاب الداخلي الفلسطيني: استخدم الخطاب الداخلي على عدة إستراتيجيات
خطابية، وحاول من خلالها تشكيل رأي مؤيد لعملية الطوفان، بل وإشراك كل من له قدرة المشاركة فيها
وذلك عن طريق:
1. إستراتيجية التبكيت: يقصد بالتبكيت في اللغة ملاقاة الشخص بما يكره،(8) وتتمثل هذه الإستراتيجية في تذكير المُخاطب بما تعرض له من قهر وظلم، وذلك بغرض شحنه بطاقة غضب تدفعه إلى تغيير الواقع وعدم الاستسلام للقهر، ومن ذلك ما جاء في خطاب محمد ضيف القائد العام للقسام، الجناح العسكري لحركة حماس، وذلك عند إطلاق عملية الطوفان: "لقد احتل الكيان الإسرائيلي أرضنا، وهجَّر أهلنا، ودمر مدننا وقرانا وبلداتنا، وارتكب بحق شعبنا مئات المجازر. قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وهدم البيوت على رؤوس الأبرياء الآمنيين.".(9) يلاحظ في الفقرة أعلاه من خطاب محمد ضيف أنَّه يذكر الشعب الفلسطيني بما يتعرض له من إذلال وقهر على يد الاحتلال الإسرائيلي، وما ذكره معلوم بالضرورة عند أبناء الشعب الفلسطيني، ولا يحتاج إلى ذكر، ولكنه ذكره على سبيل التبكيت، وإثارة الغضب في جموع الشعب الفلسطيني؛ لاستثمار ذلك الغضب الشعبي كوقود لدفع العملية العسكرية (عملية الطوفان).
2. إستراتيجية التحريض: تُسْتخدَم هذه الإستراتجية لتوجيه الغضب –المستخرج عن طريق التبكيت- نحو وجهة معينة، وقد تشمل كذلك كيفية التعبير عن ذلك الغضب، ومن ذلك ما جاء في خطاب محمد ضيف القائد العام لحركة حماس، حيث قال: "اليوم يتفجر غضب الأقصى، وغضب أمتنا، ومجاهدونا الأبرار هذا يومكم لتفهموا العدو أنه قد انتهى زمنه...". إلى أن يقول في الخطاب نفسه: "اليوم كل من عنده بندقية ليخرجها، هذا أوانها، ومن ليس عنده بندقية، فليخرج بساطوره، أو بلطته، أو فأسه، أو زجاجته الحارقة، بشاحنته أو جرافته، أو سيارته، اليوم اليوم يفتح التاريخ أنصع وأشرف صفحاته". وقال أيضاً: "أطلقنا خلال نصف ساعة 5 آلاف صاروخ تجاه مستوطنات ومدن العدو، وندعو شباب الضفة لكنس الاحتلال من أراضيهم.. فلنشعل الأرض لهيبا دفاعا عن الأقصى".(10) يلاحظ في الجزئيات أعلاه من الخطاب أنَ محمد ضيف قد استخدم صيغاً تحريضية كفعل الأمر (نفذوا هجماتكم)، والفعل المسبوق بلام الأمر(كل من عنده بندقية ليخرجها)، (وليخرج كل منكم)، وكذلك ما يفهم منه الأمر ضمنياً نحو (ندعو شباب الضفة لكنس الاحتلال)،كما شملت أيضاً الكيفية التي يستخدم بها الغضب الشعبي وأدواته التعبيرية (تنفيذ هجمات، بندقية، سيارة، شاحنة، كنس الاحتلال، إشعال الأرض لهيباً).
3. إستراتيجية الصبغة الدينية: هي إستراتيجية تحاول إضفاء التقديس والقبول على لخطاب لدى المخاطب، إذ تخاطب وجدانه الديني، وذلك عن طريق اقتباس ألفاظ وعبارات دينية في ثنايا الخطاب الداخلي، وتظهر تلك الصبغة في خطاب القائد محمد ضيف في بداية عملية الطوفان، حيث بدأ بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم،(11) ثم استشهد بآيتين كريمتين من سورة (القمر)، وهما قوله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر* بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}(12)، كما استشهد بآيات أخرى تحض على الجهاد وقتال العدو، هذا مع ذكر طريقة المسلمين في الجهاد حيث أوصى المجاهدين بألا يقتلوا الشيوخ والأطفال، هذا بالإضافة إلى ما ذكره من أفعال وانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في الأقصى من سبٍّ للنبي (صلى الله عليه وسلم)، وإحراق للمصاحف، وإدخال الكلاب إلى المساجد، وكل ذلك من الجرائم التي لن يرضاها المسلمون أو يسكتوا عنها،(13) وقد ورد ذلك كله في سياق الخطاب.
إستراتيجيات الخطاب الداخلي الإسرائيلي: استخدم الخطاب الإسرائيلي على عدة إستراتيجيات خطابية، وحاول من خلالها تشكيل رأي مؤيد للحرب مهما كانت كلفتها البشرية والمادية، وتمثلت إستراتجياته فيما يلي:
1. إستراتيجية إثارة الذعر: تستخدم هذه الإستراتيجية لتضخيم الخسائر الواقعة فعلاً، والتهويل في حجم الخسائر المتوقعة بالنسبة إلى المخاطبين، ويلجأ الساسة إلى هذه الإستراتيجية عندما يبدو الجمهور غير مدرك لحجم المخاطر، فيعمل الساسة إلى الكذب والخداع،(14) وذلك عن طريق التضخيم فيما يتعلق بحجم المخاطر الواقعة والمحتملة، ومن ذلك ماجاء في خطاب بنيامين نتنياهو عقب عملية الطوفان، حيث رفع مستوى تخويف المستوطنين ببقاء الكيان نفسه، وذكر أن هذه المعركة
لــ(لضمان خلود إسرائيل)، كما قال عنها أنها"حرب من أجل المنزل"، ليس هذا فحسب بل حاول رفع مستوى سقف الخوف الإسرائيلي إلى أعلى نقطة له من جراء هجمات حماس وخطرها الوجودي حين قال: "هم يريدون تدمير دولة إسرائيل وقتلنا جميعًا".(15)
2. إستراتيجية الأساطير القومية: تحظى الأساطير القومية بمكانة خاصة في الذاكرة الجمعية للجمهور، يكفي أن تذكر رموزها فتتداعى أحداثها في خيال الجمهور، ويعرف الساسة ذلك فيوظفون تلك الأساطير في خطاباتهم عندما يكون الحشد عن طريق تلك الأساطير ممكناً وله علاقة ما بالحدث الآني، وتعد الحروب مجالاً مناسباً لاستخدام هذه الإستراتيجية، حيث تساعد تلك الأساطير " في إعطاء أعضاء مجموعة قومية الإحساس بأنهم جزء من مؤسسة نبيلة لا يجب عليهم أن يكونوا فخورين بها فقط، بل يجب عليهم أن يتحملوا الصعاب الكبيرة من أجلها.".(16) ومن ذلك ما استخدمه نتنياهو في خطابه من أسماء شخصيات لأبطال في التاريخ اليهودي، حيث قال: "تذكروا أنكم تواصلون خط أبطال شعب إسرائيل، يهوشوع بن نون، ويهوذا المكابي، وجميع حروب إسرائيل".(17)
3.إستراتيجية الصبغة الدينية: هي إستراتيجية تحاول إضافة شيء من التقديس والقبول لدى المخاطب إذ تخاطب وجدانه الديني، وذلك عن طريق اقتباس ألفاظ وعبارات أو صلوات في ثنايا الخطاب الداخلي، ومن ذلك ما جاء في خطاب نتنياهو عقب عملية الطوفان، حيث قال: "يا الله، أقم علينا عدونا واضرب أمامنا".(18) ومن ذلك أيضاً ما جاء في منشور لوزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش على منصة (إكس)، وذلك عقب اغتيال صالح العاروروي(نائب رئيس المكتب السياسي
لحركة حماس)حيث قال بتسلئيل سموتريتش: "هكذا يبيد جميع أعدائك يا إسرائيل." وكذلك فعل وزير الاتصالات شلومو كرعي في منشور له على منصة(إكس) تعليقاً على اغتيال العاروري: "هكذا يبيد جميع أعدائك يا رب. وأحباؤه كخروج الشمس في جبروتها. واستراحت الأرض أربعين سنة." في اقتباس واضح من التوراة (سفر القضاة: الآية: 31).(19) وكل هذه الجزئيات من خطابات الساسة الإسرائيليين توضح تعمدهم إضفاء الصبغة الدينية في وصف أعمالهم العسكرية، وذلك بغرض منحها هالة من التقديس والنزاهة التي تحميها من التعرض للنقد أو التصحيح أو المعارضة.
كانت تلك أبرز الإستراتيجيات المستخدمة في الخطاب الداخلي لكل من الجانبين، حيث تمثلت إستراتيجيات خطاب المقاومة في التبكيت والتحريض، بينما تمثلت إستراتيجيات خطاب سلطة الاحتلال في إثارة الذعر، والأساطير القومية، هذا مع اشتراك الجانبين في إستراتيجية الصبغة الدينية.
_____________________________
(1) ابن منظور، محمد بن مكرم.(بدون تاريخ). لسان العرب. بيروت: دار صادر. مادة (خطب)، ج: 1، ص: 361.
(2) الآمدي، علي بن محمد.(2003م). الإحكام في أصول الأحكام. تعليق: عفيفي، عبد الرازق. الرياض: دار الصميعي للنشر. ج: 1، ص: 132.
(3) مشبال، محمد. (2017م). البلاغة وأنواع الخطاب. القاهرة: رؤية للنشر. ص: 369.
(4) تودوروف، تزفتان. (1993م). اللغة والأدب في الخطاب الأدبي. ترجمة: الغانمي، سعيد. بيروت: المركز الثقافي. ص: 48.
(5) مانغونو، دومنيك.(2008م). المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب. ترجمة: يحياتن، محمد. الجزائر، وبيروت: منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ناشرون. ص: 38.
(6) الشهري، عبد الهادي بن ظافر. (2004م). استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية. بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة. ص: (86- 88).
(7) دايك، توين فان.(2014م). الخطاب والسلطة. ترجمة: العلي، غيداء ، القاهرة: المركز القومي للترجمة. ص: 151.
(8) ابن منظور. لسان العرب. مادة (بكت)، ج: 2، ص: 11.
(9) المركز الفلسطيني للإعلام. "خطاب طوفان الأقصى"، المركز الفلسطيني للإعلام، تاريخ النشر: 7/10/2023م، تاريخ المشاهدة: 15/1/2024م، الرابط:
(10) المركز الفلسطيني للإعلام. "خطاب طوفان الأقصى"، المركز الفلسطيني للإعلام، تاريخ النشر: 7/10/2023م، تاريخ المشاهدة: 15/1/2024م، الرابط:
-372.pdf
(11) المركز الفلسطيني للإعلام. "خطاب طوفان الأقصى"، المركز الفلسطيني للإعلام، تاريخ النشر: 7/10/2023م، تاريخ المشاهدة: 15/1/2024م، الرابط:
(12) سورة القمر: الآية: (45- 46).
(13) المركز الفلسطيني للإعلام. "خطاب طوفان الأقصى"، المركز الفلسطيني للإعلام، تاريخ النشر: 7/10/2023م، تاريخ المشاهدة: 15/1/2024م، الرابط:
(14) ميرشامير، جون جي. (2016م). لماذا يكذب القادة والزعماء. ترجمة: عبد الفتاح عمورة. دمشق: دار الفرقد للطباعة والنشر.ص: 83.
(15) موقع الخنادق، " الخطاب التعبوي لبنيامين نتنياهو"، موقع الخنادق، تاريخ النشر: 23/10/2023م، تاريخ المشاهدة: 17/1/2024م، الرابط:
(16) ميرشامير. لماذا يكذب القادة والزعماء. ص: (131- 136).
(17) موقع الخنادق، " الخطاب التعبوي لبنيامين نتنياهو"، موقع الخنادق، تاريخ النشر: 23/10/2023م، تاريخ المشاهدة: 17/1/2024م، الرابط:
(18) موقع الخنادق، " الخطاب التعبوي لبنيامين نتنياهو"، موقع الخنادق، تاريخ النشر: 23/10/2023م، تاريخ المشاهدة: 17/1/2024م، الرابط:
%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9% 84%D8%AA%D8%B9%D8%A8%D9%88%D9% 8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D9%8A% D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%86-%D9% 86%D8%AA%D9%86%D9%8A%D8%A7%D9% 87%D9%88
(19) خليل، زين. "نتنياهو يوجه وزراءه بعدم التصريح للإعلام حول اغتيال العاروري"، موقع وكالة الأناضول، تاريخ النشر: 2/1/2024م، تاريخ آخر تحديث: 3/1/2024م، تاريخ المشاهدة: 1/2/2024م، الرابط:
تعليقات
إرسال تعليق