تحميض الفلم: فصل من رواية أضواء النفق الجنوبي
تحميض الفلم: فصل من رواية أضواء النفق الجنوبي
محمد إبراهيم محمد عمر همد
تشير سعاد إلى نبيل ملوحة بيدها من خلف
الزجاج السميك، وهي تضع سماعة الهاتف على أذنها ضاغطة على السماعة بإمالة رأسها في
تركيز واهتمام شديدين، فابتسم لها، وبدت ابتسامته باهتة وحزينة من خلف الجدار
الزجاجي، ومظاهر الانكسار والاكتئاب تجعل من وجهه ممسحة رمادية رثة لم تغسل منذ
وقت طويل، وبدت لحيته ذات الشعر المتنافر كثآليل مقززة تتداعى على جنبات
وجهه من كل صوب وحدب، من كان يصدق أن نبيل الدباغ الوسيم ذا الإطلالة
المريحة يتحول إلى هذا المسخ الوقف أمامها،وقد بدا شاحب الوجه، وتزيده لحيته
الشعساء شحوباً وذبولاً،حتى عينيه الواسعتين قد غارتا قليلاً، لم يبقِ من ملامحه
المعروفة سوى أنفه الشامخ، ويبدو أنه قد احتفظ بشكله هذا بصعوبة واضحة، لا شكَّ
أنهم يعبثون بملامح هؤلاء الأسرى بطريقة قاسية، وكأنهم على عجل من أمرهم في
إخراج نسخ غير متوقعة منهم، حتى أمهاتهم سيعجزن عن التعرف عليهم إلا بصعوبة
بالغة، لوهلة كذبت عينيها لولا أن تناهت إلى مسمعها ضحكته الصافية المجللة
عبر سماعة الهاتف، أو هذا ما خيل لها، ولو كانت الأمور على ما يرام لميزت أن ثمة
تغيراً كبيراً قد طرأ عليها، فلم تعد ذات الضحكة الصافية العميقة ذات النغمة
السلسة والمريحة، وقد أضحت مجرد قهقهة متبلدة مصدرها ومبلغها تجويف فمه الذي يفتر
عن أسنانه في فتور وكسل واضح، ولو علمت ذلك لوجدت له العذر في ذلك، فمن الصعب أن
يحتفظ المرء بضحكة صافية مجلجلة في أعماق هذا القبر المسمى بسجن رامون، فقالت وهي
تحاول أن تسري عنه:
عندي لك مفاجأة.
لم
تثر الجملة فضوله، فهو يرى أن سعاد مازالت غريرة وساذجة لم تتلوث فطرتها
بعد، إذ تبذل قصارى جهدها للتخفيف عنه، وهذا ما يزيدها جمالاً وحبا وقربا إليه،
ولكنه الآن محطم القلب قلق البال بما يكفي فلا يأمل في سماع أي مفاجأة سارة يمكنها
أن تدخل السرور على قلبه خلسة في ظل هذا الطوق الفولاذي للاكتئاب، والذي يحيط
بقلبه في تماسك وإحكام، وعلى الرغم من أنه لم يسأل عن كنه تلك المفاجأة فإنها شرعت
في الكشف عنها لولا أن صفارة السماعة منعتها من الاسترسال في الحديث وقد آذنت
بانتهاء الزمن الرسمي للمقابلة، وعلى الطرف المقابل سحب الحارس نبيل الدباغ إلى
الداخل وهو يلوح لها والدموع الحبيسة تملأ عينه فتبدوان مشعتان بأشعة آسرة خارقة
اخترقت الجدار الزجاجي فأحست بموجة لذيذة من الدفء والرعشة تسري في كامل جسدها،
ولم تفلت من تأثير تلك الموجة حتى استقلت الحافلة وهي تنهب الأرض في رحلة العودة
إلى أرض القطاع.
وقد أعيد نبيل الدباغ إلى محبسه مثقل
القلب والخطى، ومزيج ثقيل من الاكتئاب واليأس يجثم على صدره، فيكاد يلتقط أنفاسه
بصعوبة بالغة، وهو الذي كان يمني نفسه بلقاء عاطفي عاصف، ليعصف بوساوسه وأحزانه،
ويعيد ترتيب انفعالاته وخواطره بعد تنقيتها من تلك الشوائب السوداء المبعثرة
فيها هنا وهنالك، لكم تمنى أن يشكو إليها ويبثها أحزانه، ولكم كان مشتاقاً
إلى سماع صوتها ورنين ضحكاتها المحببة إلى قلبه، لكم كان حريصاً من قبل على
استخلاصها منها بشتى الوسائل من تصرفات مضحكة، وتلفيق قفشات مسلية من وحي حياته
اليومية، يبدو أن معين ذلك قد نضب إلى الأبد، وقد توقف قلبه عن الاستمتاع بذلك منذ
أسره، وقد جعل منه الأسر إنساناً شبه آلي، تحركه طاقة قوية من الاكتئاب والضجر
والتبرم من الحياة ومن رفقاء الأسر، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين حظوا بزيارات من
عائلاتهم اليوم، وما يزيده تبرماً وضيقاً بهم انهماكهم الآن في تحميض أفلام تلك
الزيارة، فهاهم يبتسمون لأنفسهم في رضى وامتنان عجيب وهم يجترون ذكريات ذلك اللقاء
الذي لم يمر عليه وقت قصير بعد، يبدو زاهداً في مشاركتهم تلك اللعبة السخيفة، لعبة
تحميض الأفلام واجترارها، وربما يرجع ذلك إلى محصلته الفقيرة من اللقطات السعيدة
خلال لقاء اليوم، وهذا يعني عجزه عن مجاراتهم في تلك اللعبة التي لا يمتلك المخزون
الكافي من أدواتها، ولا المهارة اللازمة لإجادتها، وربما لأنه يرى أن الفكرة
سمجة من الأساس، وما هي إلا محاولة طفولية ساذجة للإفلات من براثن اليأس والملل في
هذا القبر الموحش المسمى بسجن ريمون، وذلك لأن تلك الأفلام ستفقد رونقها وبريقها
مع كل اجترار جديد، وهو واثق من أن مفعولها السحري سينفد في غضون أربع وعشرين
ساعة، وهو الآن في حاجة ماسة إلى شحنة إيجابية تدوم لفترة أطول من تلك، لكل هذا
يتبرم ضيقاً بكل من في هذا المكان الضيق أصلاً، ولا يطيق الحديث مع أي شخص منهم،
ويزمجر غاضباً في وجه كل من يتقرب إليه متودداً بالحديث معه الآن، ولكن مع
ذلك لم تنقطع محاولاتهم المستميتة في استنطاقه والفضفضة عن مكنون قلبه، ولكن فشلت
محاولاتهم المتكررة في الحصول على أي تصريح منه أو تعليق بخصوص زيارة
زوجته اليوم.
اقترب ياسر زغلول والملقب بشيخ الأسرى، وهو لقب فيه شيء الغرابة، فمن يرى
تصرفاته وأقواله المستهترة التي تجعله يبدو مستمتعاً بالأسر وحيثياته سيبدي
استغرابه عن كيفية حصوله على لقب شيخ، هذا ما لم يكن المقصود هو طول فترة أسره،
وحتى طول فترة سجنه لم تترك أثاراً عليه، إذ ما يزال يحتفظ بمعنويات عالية تكشف
عنها ضحكاته المجلجلة كأنما هو في نزهة لساعات يعود بعدها هانئا راضياً إلى بيته، يبدو
أن هذا الرجل بلا قلب، أو ربما هنالك عطب ما في عقله يجعله عاجزاً عن تبين حقيقة
ودقة وضعه الكارثي الذي يعيشه الآن، فهذا الرجل الهازل الذي يدخن بشراهة
محكوم عليه بالسجن لمدد مختلفة تفوق الخمسين عاماً.
لأول مرة منذ دخوله السجن يسمع فيها شيخ الأسرى يتحدث إليه بلهجة حادة
وحازمة، وهو الشخص الضحوك الهازل، وهاهو يقول بحزم وقسوة:
ما الذي يحدث لك يا بني؟
هل أنت أول أسير وآخر؟ أخشى أن تعتقد أن حياتك أغلى من حياة كل هؤلاء الرجال؟ أتعتقد
أن تذمرك سيخرجك من السجن؟ اعقل يا بني فأنت محكوم بسبعة عشر سنة، ومازال أمامك
الكثير من الوقت لقضائه هنا، وربما لا تخرج من السجن، أو تخرج منه إلى القبر، هذه
الحقيقة التي عليك أن تواجهها، ليس أمامك سوى يومك هذا وعليك أن تعيشه بالطريقة
التي ترضيك، ولا شأن لنا بذلك ، والحق علينا لأننا نريد إخراجك من هذا الوضع
النفسي السيء الذي تعيشه الآن.
قال
ذلك ثم تنحى عنه قليلاً وتبعه بقية الرفاق، وقد أحس نبيل الدباغ بوقع تلك
الكلمات كصفعات قوية متتالية على خده، وأعقب ألمها شعور قوي بالراحة كأن كلماته
تلك قد طردت سحراً عضالاً كان يخيم على قلبه، فغمره إحساس قوي بالراحة والانشراح
فتقاطرت دمعات حرى على خده، وأحس بطعمها المالح يتسرب إلى حلقه، فسرت رعشة
خفيفة في جسده ثم انخرط في بكاء صامت، ثم قام من موضعه وأقبل نحو رفاقه متهلل
الأسارير، فابتدره شيخ الأسرى قائلا:
اعذرني يا نبيل على
قسوتي عليك، لم يكن أمامي سوى ذلك لإخراجك من حالة الذهول التي كنت فيها.
لم
يجد كلمة مناسبة يرد بها عليه فغمغم في رضى بكلمات مبهمة، يبدو أن هذا الرجل يستحق
لقب شيخ الأسرى عن جدارة واستحقاق، وعلى الرغم أن كلماته كانت شديدة السلبية
إلا أنها شحنته بشحنة إيجابية قوية، فهاهو يستمع باستمتاع وإصغاء تام لشيخ
الأسرى وهو يقص قصة أسره، وقد أحس في قرارة نفسه أن شيخ الأسرى يسرد قصته الآن
خصيصاً له، وربما يرغب في تسليته والترفيه عنه، وبدا منتبهاً لسماعه بكل حواسه،
فكأنه لا يرغب في أن يفوته حرفاً من تلك القصة.
كان ذلك في صيف ١٩٨٠م، ولم أتجاوز حينذاك العشرين من عمري، لم يمر
على زواجي من بنت عمه سلوى أكثر من سبعة أشهر، وقد تم اختياري فرداً في مجموعة
عشرية فدائية تستهدف اختطاف إسرائيليين بغرض مبادلتهم برفاق لنا في
السجون الإسرائيلية، وقد تم إنزال المفرزة على شواطئ تل أبيب، ومن ثم تسللنا إلى
قلب المدينة، وقد تمكنا من إيقاف حافلة ركاب إسرائيلية ، وحافلة أخرى أيضاً تقل
أحد عشرة راكباً، وتم دمج مجموعتي الركاب في الحافلة الأولى، وهنا بدأ الخبر ينتشر
في المدينة والحافلة تشق طريقها إلى خارج المدينة، ومررنا بحاجز تفتيش على تقاطع
شارع تمكنا من القضاء على أفراده وسلبنا أسلحتهم وجهاز
اللاسلكي خاصتهم، وحملنا جثثهم على الحافلة، وكانت تلك أول مرة أخوض فيها قتالاً
حقيقياً، وقد أصابني الرعب لدقائق ثم مرت رصاصة على مقربة من رأسي، بل على الأصح
احتكت بأذني فاختلط أزيزها بالألم الذي سببته لي بجرح سطحي على شحمة أذني اليمني،
وسال الدم الحار اللزج على جانب عنقي، وكان هذا كفيلاً باجتياز عتبات الرعب
والولوج إلى قلب المعركة، وقد كان لتلك الغارة الخاطفة وما تحقق فيها من نصر سريع
أثره البالغ على نفوسنا، فقد كسرنا حاجز الخوف، وارتفعت روحنا المعنوية
وموجات اللاسلكي تنقل إلينا تعليمات شديدة اللهجة للدوريات وحواجز التفتيش
بعدم السماح بخروج الحافلة بأي ثمن حتى ولو أدى الأمر إلى نسف الحافلة بمن فيها،
وهنا علمنا أن الأمر قد تحول إلى قيادة الجيش من الشرطة، إذاً أخيراً استطعنا أن ننقل الموت والرعب إلى قلب
العدو، من يصدق أن هذه الدبابات المنتشرة في الشوارع وناقلات
الجند تجوب شوارع المدينة بحثاً عن مفرزة خفيفة التسليح لا يتجاوز عدد أفرادها عدد
أصابع يدي شخص واحد، وهنا قررنا التعديل في الخطة بسرعة حيث أنزلنا الركاب بسرعة،
واكتفينا بحمل جثث الجنود الأربعة، وذلك حتى تم حصارنا في شارع ومكبرات الصوت
تطالبنا بالاستسلام دون قيد أو شرط، وحينها قررنا عدم الاستسلام وخوض المعركة، هذا
على الرغم من أن موازين القوى غير متكافئة، بل على الأصح لم يكن هنالك مجال
للمقارنة، وقد ارتجلنا خطة سريعة تمكنا من إلحاق أكبر خسارة ممكنة بالعدو قبل
القضاء علينا، وبالفعل بدأ سبعة أفراد منا بإمطارهم بالرصاص من نوافذ
الحافلة، بينما التصقت أنا ورفيقي بأرضية الحافلة في انتظار دورنا من الخطة،
وبالفعل بعد أقل من ربع ساعة استشهد رفاقنا السبعة وقد أصبحت الحافلة مصفاة كبيرة
من كثرة ثقوب الرصاص بها، مازلت عاجزاً حتى الآن عن معرفة عدم انفجارها من كثرة ما
تعرضت له من الرصاص، الذي لم يجد طريقاً ولو بالخطأ إلى خزان الوقود، وقد استمر
العدو في إطلاق النار لخمس دقائق أخرى بعد توقف إطلاقه من قبلنا، ثم بدأ جنود
العدو يقتربون من الحافلة بحذر وإن كان مصحوباً بضجيج عال ينم عن رعبهم، ثم تشجع
بعضهم وصعد إلى الحافلة ورائحة البارود فيها تزكم الأنوف، وبالفعل وكما
تقتضي الخطة أطلقت ورفيقاي النار عليهم بعد أن تظاهرنا بالموت وسط الجثث
المتناثرة، وهنا لعلع الرصاص من داخل الحافلة وخارجها.
لم أدرِ حينها ما الذي حدث بعد ذلك، ولكن وجدت نفسي بعد ذلك في العناية
المركزة، وقد أصبت بسبع رصاصات منها رصاصة في العنق وأخرى في الساعد واثنتان في
الحوض، ومثليها في الفخذ والساق، حينها تأكد لي بأن في عمري بقية لا أدري مقدارها
ولكن ما عرفته حقاً أن اسمي لم يكن في قائمة الموت في ذلك اليوم، وقد بدأ
التحقيق معي عن الحادثة، وعلمت من أسئلتهم أننا قد كبدناهم خسائر فادحة بلغت خمسة
عشر جندياً، منهم أحد عشر مقاتلاً من بينهم ضابط، بالإضافة إلى أربعة جنود من
الشرطة على حاجز التفتيش، بينما استشهد رفقائي التسعة، وقد فصلت لي أربع قضايا
مختلفة وصرت أحاكم في كل قضية أمام محكمة منفصلة، والقضايا هي: التسلل، واختطاف
المدنيين، وقتل الشرطة على حاجز التفتيش، بالإضافة إلى التصدي للجيش وخوض معركة في
المدينة وتعريض حياة المدنيين للخطر، كنت أتوقع أن يلحقوني برفاقي التسعة بأسرع ما
يكون، ولكنهم في النهاية حكموا علي بمدد مختلفة فاقت الخمسين عاماً، وفهمت من ذلك
أنهم لا يرغبون في إراحتي بالموت السريع، بل يريدون لي موتاً بطيئاً يسمح لهم
بالتشفي والشماتة والانتقام، وقد تأكد لي ذلك تماماً من كثرة الزوار الذين يتردون
على السجون للاستمتاع بمشاهدتي بملابس السجن، ومن ذلك الوقت قررت أن أحرمهم
من تلك المتعة، متعة الاستمتاع بما يظهر علي من المعاناة والانهيار النفسي من
السجن. وقد واجهت صعوبة شديدة في ذلك في البداية، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت أجيد
اللعبة واستطعت التحكم في انفعالاتي ومشاعري السلبية.
انطلقت
صفارة التفتيش المفاجئ في أنحاء السجن، واقتحم الجنود الزنازين يعبثون بالسجناء
وبمقتنياتهم المتواضعة، ويبدو أنهم يبحثون عن أشياء تسللت إلى داخل السجن خلال
زيارة اليوم، ويعجب من هذا الظن، كيف يعقل أن تتسلل إلى السجن أشياء بأي
طريقة كانت؟ وهو سجن يعجز الأسير فيه عن إخراج صوته إلى ذويه إلا عبر سماعة هاتف
عبر حاجز زجاجي سميك! فلو دخل شيئاً إلى هنا بعد كل هذا الحرص والتضييق فهذا يعني
أن ثمة خائن بين هؤلاء الجنود، هذا ما لم يكن لأصدقائه الأسرى حيل لم يدرك كنهها
بعد.
انتهى
التفتيش المفاجئ بسرعة خاطفة، ولكنه خلف آثاراً تحتاج إلى وقت طويل بعض الشيء
لمعالجتها، فقد قلب الجنود الغرف والزنزانات رأساً على عقب، وانهمك الأسرى في
ترتيب أمتعتهم من جديد بمهارة وخفة، يبدو أن العبث بالأسرى ومقتنياتهم هو الهواية
المفضلة لهؤلاء الجنود، وعلى الرغم من أن الأسرى مجبرون على تلك اللعبة ولكنهم
أيضاً يجيدون قوانين اللعبة المفروضة عليهم، إذ يقومون بأداء دورهم في
اللعبة بهدوء وفي الوقت المخصص لهم.
تعليقات
إرسال تعليق