الزيارة: فصل من رواية أضواء النفق الجنوبي

الزيارة: فصل من رواية أضواء النفق الجنوبي

   محمد إبراهيم محمد عمر همد 



       حزَّمت سعاد أمتعتها وهي تهيئ نفسها للسفر إلى سجن ريمون، وهذه أوَّل زيارة له منها منذ أن سجن زوجها نبيل الدبَّاغ قبل ستة أشهر، لم تألُ فيها جهداً من محاولة زيارته فيها، إلَّا أنَّ جهودها وجهود أقربائها لم تكن مثمرة إزاء تعنُّت حكومة الاحتلال في إصدار تصريح الزيارة لها، حتى أتى يوم الاثنين الماضي وقد جاءها أبو مرزوق زوج خالتها بالبشرى، وقد استطاع بما له من نفوذ وعلاقات داخليَّة وخارجيَّة من استخراج هذا الإذن، ولم تصدِّق سعاد عينيها وقد خطفته من يده وهي تكاد تطير فرحاً، لا تدري كم ستكون فرحتها لو كان هذا صكّ الإفراج عنه؟ وفي غمرة الفرح المباغت نست أن تشكر أبا مرزوق على هذا المعروف، ولم يكن هو في انتظار شيء من ذلك، وقد فرح لفرحتها، وتمنى من أعماق قلبه أن يفرَّج الله كربة هذه البائسة الضعيفة.

      انطلقت الحافلة صوب معبر حانون وهي محمَّلة بأُسَر الأسرى، وقد بدا الأمر كرحلة مدرسيَّة في نهاية العام الدراسي، وذلك لاكتظاظ الحافلة بالأطفال، وكلُّ طفل منهم على موعد مع رؤية أبيه أو عمه أو خاله أو أخيه،  وقد جلست سعاد على مقعدها في منتصف الحافلة، وبدت شاردة الذهن بعيدة عن جو المرح السائد في الحافلة.

     عادت سعاد بذاكرتها إلى الوراء، إلى يوم زفافها إلى نبيل الدباغ، فها هي تنزل من اللوج بمساعدة أبيها، وقد التفَّت كل نساء الحي حولها، والفتيان يحيطون بالمكان، وقد بدت قلقة متوترة، يخالجها مزيج من الشعور بالارتياح وعدمه، فتتعثر خطواتها وأصوات الحناجر حولها ترتفع بالأغاني حيناً وتنخفض بها حيناً آخر، وهاهم يردِّدون بأصواتهم الشجيَّة يحثونها على النزول:

تع اطلعي تع اطلعي من حالك

وإحنا حطينا حقوق أبوكي وخالك

تع اطلعي تع اطلعي من يمك

وإحنا حطينا حقوق أبوكي وعمك

فيزيدها هذا اضطراباً أكثر مما هي مضطربة، فتسحب الأرض من تحت قدميها، وتوشك على السقوط لولا استنادها على كتف أبيها جيداً.      

     ينتشلها من هذه الذكريات صوت انفجار إطار الحافلة وما صحبه من صراخ للأطفال، انفجر إطار الحافلة ليزيد معاناتها، يبدو أنَّ هؤلاء السائقين لا يتهمون بإصلاح حافلاتهم اهتمامهم بانتزاع النقود من إنسان عين المسافر.

     وأخيراً وصلت الحافلة إلى معبر بيت حانون، واتسمت إجراءات الدخول بالسهولة على الجانب الفلسطيني، ولم يكد يصلوا إلى الجانب الآخر من المعبر حتى بدأت رحلة المعاناة والإذلال، وقد أوقفوا قرابة الساعة وهم يدقِّقون في تصاريحهم وأوراقهم الرسميَّة الأخرى، وقضوا فترة أخرى مماثلة قيد التفتيش، تفتيشهم وما يحملون من أمتعة، ثم سُمِحَ لهم بالعبور وضحكات الجنود وتعليقاتهم الساخرة تلاحقهم، ومندوب الصليب الأحمر يقلَّهم  إلى سجن ريمون، ومن بين هؤلاء الجنود الساخرين بحثت سعاد عن جندي يدعى نوعام، وهو جندي اشتهر بمضايقة العمال الفلسطينيين وتعمُّد إذلالهم حتى تمكَّن زوجها من ضربه ضرباً مبرحاً، وكان سبباً في دخوله سجن ريمون، ويبدو أنَّ نوعام قد نُقِلَ من المعبر بعد تلك الحادثة.

       ففي ذلك اليوم كانت الضائقة المالية التي يمرُّ بها نبيل على أوجها، ويزيد وحم زوجته وطلباتها الغريبة حياته  تعقيداً على ما فيها من نكد وتعقيد، لم يكن سيء الخلق من قبل، ولكنه لم يعد يطيق نفسه والمحيطين به بعد، لذلك كان الضيق واضحاً عليه وهو مصطفُّ في الحلبات على المعبر، وضيق هذه الحلبات وما فيها من زحام يزيد صدرهً ضيقاً وحنقاً، يبدو أنَّهم يتعمدون إذلالهم ومضايقتهم إذ يجعلونهم يتزاحمون على أربع حلبات بينما المعبر يحتوي على أربعٍ وعشرين منها، والصف يزحف ببطء والجنود يتصرفون معهم بلامبالاة واضحة، ومن بين أولئك الجنود كان نوعام أكثرهم وقاحة وسفاهة وجرأة على إلحاق الأذى بالعمال، والعمال يتحاشون الاشتباك معه خشية أن يتسبَّب في تأخيرهم أو يمنعهم من العبور نهائياً، وزاده ذلك التحاشي سفاهة وجرأة على التعدِّي عليهم، فيزيدهم هذا غلواً واضحاً في الحذر منه، والحرص على تفادي الوقوف أمامه، حتى صار نوعام هاجساً يؤرِّق حياتهم وينقص مضاجعهم، فلو أنَّ عاملاً انتفض مذعوراً من نومه فاعلم أنَّه رأى نوعام في المنام،  وقد صار يتفنَّن في إذلالهم ومضايقتهم لأنَّه يعتقد أنَّ هؤلاء العمال ما هم إلَّا جواسيس لحماس، وأنَّهم أخطر مما يوحي به بؤسهم وانكسارهم الواضح.

      وقد جاء دور نبيل في العبور، وكان من سوء حظه أن يكون تفتيشه على يد ناعوم، ويده الناعمة الطرية تتفحص ظهره وتحت إبطيه، ثم يطالبه برفع قميصه، على الرغم من أنَّ نبيل يتعرَّض لهذه الإجراءات بشكل يوميٍّ، حتى غدت جزءً روتينيَّاً من طبيعة عمله، لذلك لم يكن يحفل بها في ما مضى، ولكنه الآن يجد صعوبة في تقبُّل هذه الإجراءات، ويرفضها أكثر لأنَّها على يد هذه الجندي ناعوم، لكم كان نبيل يعتقد أنَّه قد خلع (دماية) الكرامة منذ استخراجه أوَّل بطاقة ممغنطة تسمح له بعبور هذا المعبر، ويبدو أنَّه لم يكن على صواب، فها هو يحسُّ بالدم يقلي في عروقه، وملمس هذه اليد الناعمة وما لها من زحف حيَّة رقطاء يقشعرُّ منها بدنه، وعلى الرغم من أنَّ يدي نوعام كانتا تعبثان في جسد نبيل  في مواضع بعيدة كلّ البعد عن جهازه التنفسي، إلَّا أنَّه أحسَّ بضيق في التنفس، وكأنَّ هذا النوعام يضع أصبعيه على فتحتي أنفه، بينما يحشر يده الأخرى في فيه، وبكلِّ ما يملك من قوة ورغبة في الحياة أهوى بلكمة ساحقه على وجه نوعام، لكمة أودعها كلَّ غضبه وضيقه وأسفه على كل شيكل دفعه نظير الحصول على هذه البطاقة الممغنطة التي جلبت عليه كلَّ هذا الذل والهوان. تغضَّن وجه نوعام من وقع اللكمة والدهشة فبدا كقطعة أسفنجيَّة مبلَّلة بالماء، وإذا بالدم يجرى من منخيره وفيه وسط دهشته وذهول زملائه، بينما ألقى نبيل بجسده عليه ليسقطا على الأرض معاً، وقد فقد نوعام كلَّ رغبة في المقاومة، وقد استسلم ليد نبيل التي تعتصر عنقه، وقبضته اليمنى تتابع لكماتها على وجهه، وقد أحسَّ نوعام  براحة نفسية عالية يجدها مريض الاكتئاب بعد كلّ مرض عضويٍّ منهك، كأنَّ هذه اللكمات تطهره من آلامه وسرِّ تعاسته، وما جعله يشعر بالراحة أكثر تحقَّق صحَّة نظريته عن هؤلاء الأغيار، فهم أكثر شراً مما يبدون عليه، ولكن من يخبر أولئك الرجال السذج في تل أبيب، والذين ينفقون ساعات نهارهم في إصدار هذه التصاريح الممغنطة التي يسرق بها مال شعب الله المختار، ومن بين كل عشر شياكل يسرقها هؤلاء الأغيار ثمانية شياكل ينفقونها على تطوير صواريخهم البائسة وإنتاج مثل هذا الكلب الذي يتابع لكماته بحماس على وجه سيده، ليقطع هذه الأفكار رائحة البارود وقنابل الغاز المسيل للدموع، وقد اشتبك جسدا نبيل ونوعام حتى عجز رفقائه عن فكِّ اشتباكهما، ومن بين كلِّ ثلاث ضربات من كعوب بنادقهم الآلية واحدة كانت تضلُّ طريقها إلى جسد نبيل، فتسحق جسد نوعام فيعلو صراخه، حتى سكن جسد نبيل من وقع الضربات المتتابعة، وتحرَّر نوعام ليركل بقدمه وجه نبيل بكلِّ قسوة وعنف، ولا حقاً أحيل نبيل للمحاكمة ليحكم عليه بالسجن سبعة عشر سنة، بينما نُقِلَ نوعام من المعبر حتى لا يؤجِّج وجوده رغبة المقاومة في صدور أصدقائه.         

     وفي داخل سجن ريمون التفت العائلات الحاجز الزجاجي وسماعات الهاتف للحديث مع الأسرى، ودموع الفرح والأصوات المتهدِّجة تظلِّل الجميع  بسحابة رقيقة من الرحمة تلطِّف من جوِّ السجن الكئيب، وقد احتضنت سعاد  وجه زوجها من خلف الحاجز الزجاجي، وقد احسَّت بقلبه ينتفض بعنف يكاد يخرج من بين ضلوعه المتهالكة، لقد سرق هذا السجن عمر نبيل وامتصَّ عافيته، فهذا الشبح المتهالك من يستطيع أن يقول عنه أنَّه نبيل دبَّاغ الفتى الممشوق القوام، الممتلئ حياة وحيويَّة، لا تدري سعاد ما الذي يفعلونه بهم هنا؟ هذه ستة أشهر فحسب فعلت به الأفاعيل، فماذا ستفعل به سبعة عشرة سنة سيقضيها هنا وفقاً للحكم الصادر عليه؟ انخرطت سعاد في نحيب حار نكَّد على العائلات فرحتها بزيارة أسراها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

الأدب التفاعليُّ بين مؤيِّديه ومعارضيه