العامل النحويُّ بين اللفظ والقائل

 

العامل النحويُّ بين اللفظ والقائل

أ‌.       محمَّد إبراهيم محمَّد عمر همَّد محمود

 

 

لم يختلف قدامى النحاة في إثبات العمل النحويِّ أيكون للمتكلِّم أم للَّفظ العامل. وقد أُثِيْرَت هذه القضيَّة في كتاب (الردعلى النحاة) لابن مُضاءالقُرْطُبِيُّ وهوصاحب الدعوة إلى إلغاء العوامل والعلل النحويَّة.(1) وقد ذكرابن مُضاء في كتابه أنَّ النحاة – بالنسبة إلى إثبات العمل- ينقسمون إلى قسمين: أحدهما: يجعل العمل للَّفظ فيعده مؤثراً حقيقياً، وسبباً في إيجاد العلامة الإعرابية في آخر المعمولات، والآخر: يجعل المتكلِّم هوالعامل في الحقيقة. ويمثِّل ابن مُضاء للقسم الأوَّل بسيبويه، ثم يذكر نصّاً من كتاب سيبويه يقول فيه:((وإنما ذكرتُ ثمانية مجارٍ، لأفرُقَ بين مايَدخله ضربٌ من هذه الأربعة لمايُحدِثُ فيه العاملُ- وليس شيء منها إلاوهويزول عنه- وبينَما يُبْنَى عليه الحرف بناءً لايزول عنه.)).(2) ثم يعلِّق ابن مُضاء على هذا بقوله:((فظاهرهذا إن العامل أحدث الإعراب، وذلك بيِّن الفساد.)).(3)ويمثِّل للقسم الآخر بابن جنِّي. ويذكر نصّاً لابن جنِّيّ في ذلك، يقول فيه: ((فأمَّا في الحقيقة ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه، لا لشيء غيره.)).(4)ثم يعلِّق ابن مُضاءعلى ذلك بقوله :((فأكَّد المتكلم بـــ(نفسه) ليرفع الاحتمال، ثم زاد تأكيداً بقوله (لا لشيء غيره). وهذا قول المعتزلة(*).)).(5)ثم يبيِّن ابن مُضاء بطلان ما ذهب إليه النحاة في إثبات العمل النحوي سواء أكان إثباته للَّفظ أم للمتكلِّم نفسه؛ وذلك لأنَّ القول بعمل الألفاظ بعضها في بعض أمرمرفوض،ولا يُقْبَل شرعاً ولاعقلاً. أمَّا من يحتجُّ بأنَّ معاني الألفاظ هي العاملة، فيُرَدُّ عليه بأنَّ الفاعل لايخرج عن أمرين: أحدهما: أنَّه يعمل عن إرادة كالحيوان، والآخر: يعمل عن طبع كالنار في الاحراق والماء في التبريد. وبما أنَّ فعل العامل(اللفظ) لا يُنْسَب إلى واحد منهما، فيثبت بهذا فساد ذلك القول حيث ثبت عدم وجود إرادة أوطبع لتلك العوامل حتى ينسب اليها فعل يمكن أن تحدثه في غيرها من الألفاظ. أمَّا القول بعامليَّة المتكلم فيفسده أنَّ((هذه الأصوات إنما هي من فعل الله تعالى، وإنَّما تنسب إلى الإنسان كما ينسب إليه سائرأفعاله الاختيارية. )).(6)

وبذلك يخرج ابن مُضاء القضيَّة من سياقها العلميِّ، فبدلاً من كونها قضيَّة نحويَّة محضة، يجعلها قضيَّة مذهبيَّة تخضع لأصول مذهبيَّة وعقديَّة مُخْتَلَف عليها بين أصحاب المذاهب المختلفة.

أمَّا ما نقله عن سيبويه وابن جنِّي فلا يقوم به دليل على صحَّة ذلك التقسيم الذي قسَّمه لمواقف النحاة من إثبات العمل للَّفظ أم للمتكلِّم، حيث ذكر سيبويه في كتابه ما يفيد بأنَّ المتكلِّم هوالعامل، ومن ذلك استشهاده ببيت امرئ القيس:

فلَو أنَّ ما أَسْعَى لأَدْنى معيشةٍ] الطــــــــويل[

                        كفاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ مِنَ المَالِ(7)

حيث يعلِّق سيبويه على هذا البيت أعلاه بقوله: ((فإنَّما رَفَع لأنَّه لم يَجعل القليلَ مطلوباً، وإنَّما كانَ المطلوبُ عندَه المُلْكَ وجعل القليل كافياً، ولو لم يُرِدْ ذلك ونصبَ فَسَدَ المعنى.)). (8) فهذا الكلام لسيبويه فيه نصٌّ على أنَّ العامل هو المتكلِّم لا اللفظ، وهذا مُخالِف لِما نقله عنه ابن مُضاء في كتابه. وكذلك الأمر بالنسبة لابن جنِّيّ، حيث ذكر في كتابه (الخصائص) ما يفيد بأنَّ اللفظ هو العامل لا المتكلَّم، ومن ذلك قوله في مَعْرِض ردَّه على من يقول بنصب (الكاف) في (ضَرَبْتُكَ ) بالفعل والفاعل معاً. يردُّ ابن جنِّي بقوله: ((فالعمل اذاً إنَّما هو للفعل وحده، واتصل به الفاعل فصار جزءاً منه...)).(9) وبذلك ينصُّ ابن جنِّي إنَّ اللفظ هوالعامل وليس المتكلِّم.    

ثم أثار هذه القضيَّة الأستاذ إبراهيم مصطفى في كتابه (إحياءالنحو)، وقد ذكر أنَّ النحاة قد جعلوا العوامل مؤثِّرات حقيقيَّة، ولم يجعلوا المتكلَّم هو العامل.(10) وقد استشهد على ذلك بنقل عن الرضي في شرحه لـ(كافية ابن الحاجب)، حيث يقول:((والنحاة يجرون عوامل النحو كالمُؤثِّرات الحقيقيَّة)).(11) وقد رُدَّ على إبراهيم مصطفى بأنَّما ذكره عن النحاة لا يصدق عليهم كلِّهم، فإنَّ من النحاة من جعل المتكلِّم هو العامل، والعوامل اللفظيَّة مجرد علامات أو آلة يتم بوساطتها الإعراب.(12) واستشهاده بكلام الرضي كان كلاماً مبتوراً من سياقه حيث قال الرضي: ((ويدخل في عموم لفظه (ما) العامل أيضا لأنه الشيء الذي يختلف آخرالمعرب به، لأن الاختلاف حاصل من العامل بالآلة التي هي الإعراب، فهما في الظاهر كالقاطع والسكين، وإن كان فاعل الاختلاف في الحقيقة هوالمتكلم بآلة الإعراب، إلا أن النحاة جعلوا العامل كالعلة المؤثرة – وإن كان علامة لا علّة–ولهذا سموه عاملاً)).(13) ويتضح من هذا أنَّ العامل في الحقيقة هو المتكلِّم وعوامل الإعراب مجرد علامات أو آلات يتوصَّل بها المتكلِّم إلى الإعراب.

وذهب مصطفى بن حمزة إلى أنَّ النحاة قد اختلفوا في تصوِّرهم لِمَنْ يكون العمل النحويِّ للمتكلِّم أم للَّفظ، وقد لاحظ أنَّ اختلافهم في ذلك يشكِّل ثلاث اتجاهات رئيسة للرأي وهي:

الاتجاه الأول–القائل بعامليَّة اللفظ: ويرى أصحاب هذا الاتجاه أنَّ اللفظ هو العامل، وهو مؤثِّر حسيٌّ، وهو يفضي إلى ما بعده إفضاء سببيّاً عقلياً، وأنَّ العلاقة بينهما علاقة عِلِّيَّة، فلذلك تجري عليها أحكام الترابط العقلي ومقتضياته.(14) ويستدِّل على ذلك بنقول عنهم تؤكد هذا المذهب لديهم. فمن ذلك أنَّهم يمنعون النصب في باب الاشتغال في مثل: زيدٌ إنْ أكرمْتَه أكرمْك. وزيدٌ هل رأيْتَه وزيدٌ هل كلَّمْتَه. يقول الأشموني عن ذلك: ((ولا يجوز النصب لأن هذه الأشياء لا يعمل ما بعدها في ما قبلها فلا يفسر عاملاً فيه لأنه بدل من اللفظ.)).(15) ثم يعلِّق مصطفى بن حمزة على كلام الأشموني بقوله: ((عبارة الأشموني تؤول أيضا إلى اعتبارهذه الأدوات حواجز مانعةمن توصيل العمل . وكأن الأمر يتعلق بتعرف ما يمكن أن يكون عازلاً للحرارة أو الكهرباء، وما يمكن أن يكون موصلاً جيداً أو رديئاً، وكل هذه المفاهيم إنما نشأت في ظل توهم العامل مؤثراً حسياً.)).(16)

الاتجاه الثاني–القائل بعامليَّة المتكلِّم: ويرى أصحاب هذا الاتجاه أنَّ الألفاظ مجرد علامات وأدوات يتوصَّل بها المتكلِّم (العامل الحقيقيُّ) إلى الإعراب. وبذلك فإنَّأ صحاب هذا الاتجاه ((لايبالون أن يتخطى الإعمال ضوابط السببية والعلِّية لأن الأمر يتعلق بمجرد تعبير عن الأبواب النحوية، واللغة في هذا لا تتقيد بضوابط السببية وإنما تحرص على درء التباس المعاني.)).(17)

الاتجاه الثالث– القائل بعامليَّة التركيب: ويرى أصحاب هذا الاتجاه أنَّ التركيب هو المُقتَضِي للعلامة الإعرابية، نتيجة للتوافق الموقعيِّ بين الكلمتين ولهذا الاتجاه شواهد وقرائن تدلُّ عليه، ومنه: ((إن خلفاً الأحمر قد كان السابق إلى إرجاع العلامة الإعرابية إلى واقع التركيب فقد قال بأن العامل في الفاعل هوالإسناد. والكتاب المنسوب إليه(مقدمة في النحو) مؤسَّس على بيان الألفاظ وما يعقبها من حركة إعرابية معينة. ولقد هجس السهيليُّ(*) من نحاة الأندلس إلىشيء من هذا.)).(18)

وبذلك يكون مصطفى بن حمزة قد قسَّم النحاة إلى أقسام ثلاث من حيث إثبات العمل النحويِّ، إلا أنَّ هذا التقسيم الثلاثيَّ يصطدم بنصوص أخرى مخالفة لِمَنْ استشهد بآرائهم من النحاة، ويذكرون في تلك النصوص آراء تناقض ما أثبته لهم مصطفى بن حمزة.

فالأشمونيُّ مثلاً يشرح قول ابن مالك:

وَاسْتَثْنِ مَجْرُوْرَاً بِغَيْرمُعْرَبَا          ]الرجـــــــــــــــز[

                                       بِمَا لِمُسْتَثْنَى بإلَّا نُسِبَا(19)

بقوله: ((والمعنى أن غيراً يستثنى بها مجرورٌ بإضافتها إليه وتكون هي معربةً بما نسب للمستثنى بـإلاَّ من الإعراب فيما تقدم.)).(20) ويفهم من كلامه هذا أنَّ العامل الحقيقيَّ هو المتكلِّم، وأنَّ اللفظ مجرد أداة يتوصَّل بها المتكلِّم إلى العمل، وهذا الرأي يخالف ما أثبته له مصطفى بن حمزة من رأي بعامليَّة اللفظ. وكذلك الأمر بالنسبة لآراء أصحاب الاتجاه الثالث القائل بأنَّا لعامل هو التركيب، وقد وردت لهم آراء مخالفة لتلك التي ذكرها مصطفى بن حمزة لهم، فمن ذلك أنَّ خلفاً الأحمر ذكر في كتابه المنسوب إليه أنَّ العامل هو اللفظ، ومنه قوله: ((الحروف التي تنصب كلَّ شيء أتى بعدها وهي: رأيت وظننت...))(21) هنا يجعل خلف الأحمر بعض الألفاظ عواملاً فيغيرها. وكذلكا لأمر بالنسبة إلى السهيليِّ، إذ يقول عن ( لام كي)و(لام الجحود): ((هما حرفا جرٍّ فكلاهما ينصب بإضمار(أن) إلا أن لام كي هي لام العلة فلا يقعقبلها إلا فعل يكون علة لما بعدها.)).(22)وهذا القول  فيه نصٌّ على عاملِيَّة الألفاظ عنده، وهو مخالف لما نقله عنه مصطفى بن حمزة من أنَّ التركيب هو العامل عنده.

__________________________________

 (1) ابن مُضاء، أحمد بن عبد الرحمن، الرد على النحاة، تــــــ: محمد إبراهيم البنا،دار الاعتصام، ط: 1، 1979م، ص : 12.

(2) سيبويه،الكتاب،جـ: 1،ص: 13.

(3) ابن مُضاء، الردعلى النحاة،ص: 69.

(4) ابن جنِّيّ، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تـــــــــ: محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، 1952م،جــ: 1،ص: (109-110).

 (*) المُعْتَزِلَة: ويسمون بأصحاب العدل والتوحيد، وهم يُنسبون إلى واصل بن عطاء(131ه) تلميذ الحسن البصريّ، وقد اعتزله لما خالفه في القول بالمنزلة بين المنزلتين في حق مرتكب الكبيرة. انظر: الشهرستانيّ، محمد بن عبدالكريم، المِلَل والنِّحَل، تـــ: أحمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 2، 1992م، جـــ: 1، ص: (38- 40).

(5) ابن مُضاء، الرد على النحاة، ص: 69

(6) المرجع السابق، ص: (69-70).

(7) امرؤالقيس، جُنْدُح بن حُجْر، ديوانه، تـــ: مصطفى عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 5، 2004م، ص: 129.

(8) سيبويه، الكتاب، جــ: 1،ص: 79.

(9) ابن جنِّيّ، الخصائص، جـ: 1، ص:  104.

(10) إبراهيم مصطفى، إحياء النحو، مؤسسة هنداوي للنشر، القاهرة، ( د. ت)، ص: 34.

(11) الرضي، شرح الرضي لكافية ابن الحاجب، جـ : 1، ص: 44.

(12)عرفة، محمدأحمد، النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة، مطبعة السعادة، القاهرة، ( د. ت)،ص: (88 – 89).

(13) الرضي، شرح الرضي لكافية ابن الحاجب، جـ : 1، ص: 44.

(14) مصطفى بن حمزة، نظريَّة العامل في النحو العربي، ط:1، 2004م، ص: 111.

(15) الأشمونيُّ،علي بن محمد، شرح الأشمونيّ ُعلى ألفيَّة ابن مالك، تـــ: محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1939م، جــ: 2، ص: 245.

(16) مصطفى بن حمزة، نظريَّة العامل في النحوالعربي، ص : 113.

(17) المرجع السابق، ص: 116.

(*) السهيليُّ (81 5هـ): أبو الحسن عبد الرحمن عبد الله بن أحمد، نحويُّ أندلسيٌّ، من مؤلفاته: كتاب ( نتائج الفكر ). انظر: ابن خَلِّكان، أحمد بن محمد، وَفَيَات الأعيان، تـــ: إحسان عباس، دار صادر، بيروت،  1978م، جـ: 3، ص: (143 – 144).

(18) مصطفى بن حمزة، نظريَّة العامل في النحو العربي، ص: 121.

(19) ابن مالك، محمَّد بن عبد الله، ألفيَّة ابن مالك، دار التعاون، مكة المكرمة، ( د. ت)، ص: 32.

(20) الأشمونيُّ، شرح الأشمونيّ ُعلى ألفيَّة ابن مالك، جـ : 2، ص: (462 – 463 )..

(21) الأحمر،خلف بن حيَّان، مقدِّمة في النحو،تــ: عز الدين التنوخيّ، دار الثقافة والإرشاد القوميّ، دمشق، 1961م، ص: 41.

(22) السهيليُّ،عبد الرحمن بن عبدالله، نتائج الفكر في النحو، تــ: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوَّض، دارالكتب العلميَّة، بيروت، ط: 1، 1992م، ص: 106.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3) (نظريَّة تضافر القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)