السلم الحجاجيُّ في خطاب القرآن المكيِّ (توحيد الإلوهية نموذجاً)

 

 

السلم الحجاجيُّ في خطاب القرآن المكيِّ


(توحيد الإلوهية نموذجاً)




أ. محمَّد إبراهيم محمَّد عمر همَّد محمود

 

تعريف السلم الحجاجي لغة واصطلاحاً:

     السُّلَم في اللغة هو: الدرجة والمِرقاة.".(1) أما الحجَّة في اللغة فهي: "البرهان ، وقيل الحجَّة ما دُوفِع به الخصم.".(2)

امَّا الحجاج في الاصطلاح فيقصد به: "تقديم الحجج والأدلة المؤدية إلى نتيجة معينة، وهو يتمثل في إنجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب".(3)

ويقصد بالسلِّم الحجاجيِّ: "مجموعة غير فارغة من الأقوال مزودة بعلاقة ترتيبية وموفية بالشرطين التاليين:

أ. كل قول يقع في مرتبة ما من السلَّم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث تلزم عن القول الموجودة في الطرف الأعلى جميع الأقوال التي دونه.

ب. كل قول كان في السلم دليلا على مدلول معين، كان ما يعلوه مرتبة دليلا أقوى عليه.".(4)

     نستنتج من هذا القول أنَّ السلَّم الحجاجيَّ عبارة عن مجموعة من الحجج المرتَّبة، والتي يعضِّد بعضها بعضاً في التدليل على مدلول معيَّن، وعلى الرغم من تفاوتها في المراتب إلا أنَّها تصلح كلَّها في التدليل على المعيَّن موضوع الحجاج.

الغرض من الخطاب الحجاجيِّ:

      كانت قريش كغيرها من قبائل العرب تعبد الأصنام وتعظِّم شأنها، فبعث الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم هادياً ونذيراً، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها، فبدأ دعوته سراً بأهله وعشيرته الأقربين، ثم صدع بالدعوة لما أُمِر بذلك في قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(5)

      وفي بداية الأمر لم يحفلوابه، ثم بدأت العداوة بينهم وبينه تزداد لما بدأ يعيب آلهتهم، وسلكوا كلَّ السبل من ترغيب وترهيب وتنكيل به ولكلِّ مَنْ  آمن به، وذلك  في سبيل إثنائه عن دعوته، أو على الأقلّ أن يكف عنهم فلا يدعوهم إلى ترك دين آبائهم، ولا يسفِّه عقولهم، ولا يتعرض بالعيب لآلهتهم.(6)

    ولما استمرَّ النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته- حاول المشركون الردَّ بإنكار وحدانية الله سبحانه وتعالى وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا  إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(7)في هذه الآية الكريمة بيان لحال المشركين وموقفهم من وحدانية الله، وذلك لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده وأن يقولوا (لا إله إلا الله)، حينها أبدوا تعجبهم واستغرابهم فقالوا أجعل الآلهة إلهاً واحداً.(8) وزادوا على ذلك ما ذكره الله تعالى عنهم: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ  إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}(9) إذاً لم يكتفِ هؤلاء المشركون بمجرد الاستغراب واستنكار الأمر، بل سعى سادتهم وكبراؤهم على تحريضهم على الصبر والمضي قدماً في عبادة آلهتهم المزعومة، وكانت علَّتهم في رفض دعوة الوحدانية راجعة إلى أن وراء تلك الدعوة التسيّد عليهم من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم فيكونوا أتباعاً له في ذلك، لذلك لن يجيبوه إلى تلك الدعوة، دعوة وحدانية الله.(10) ثم ذكروا عدم سماعهم بهذا الأمر في ملة النصرانيَّة التي تقول بالتثليث وتعدُّد الآلهة، لذلك لن يكون هذا الأمر سوى افتعال وكذب من النبي صلى الله عليه وسلم على حسب زعمهم.(11) وقد ذكر هذا في قوله تعالى على لسانهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}(12)

     ويتضح مما سبق أنَّ المشركين أنكروا وحدانية الله، واحتجوا على ذلك بأمرين:

الأول: هذه الدعوة إلى وحدانية الله مجرد ستار لتمرير منفعة شخصية لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وليست دعوة قائمة بذاتها ومقصودة لذاتها.

الثاني: عدم سماعهم بهذا حتى من أصحاب الملل الأخرى كالنصرانيَّة، وهذا يعني ضمناً أن تعدُّد الآلهة ليس أمراً خاصَّاً بهم بل يشاركهم فيه غيرهم من المِلَل.

وهذان السببان ليسا مقنعين في تبريرهم لعبادة الآلهة، إذا كان يقتضى استنكارهم وحدانية الله-  أن يكون لهذه الآلهة نصيب وأثر واضح في تدبير أمر الكون وتسييره- لو صحَّ زعمهم بأنهم آلهة

 وقد كان للقرآن الكريم طريقته وأسلوبه المميَّز والمفحم في الردِّ عليهم، وإيراد الحجج الدامغة التي تهدم عقيدتهم وإيمانهم بتعدد الآلهة. وقد ردَّ عليهم القرآن بردود وحجج دامغة تنسف تلك الافتراءات التي نسجوها حول قولهم بتعدُّد الآلهة، وهذه الحجج  يمكن عرضها مرتَّبة كما يلي:

الحجة الأولى- تعدد المخلوقات والخالق واحد:

            عدَّد القرآن الكريم بعضاً من مخلوقات الله، مع سؤالهم عمَّن خلفها ويملكها على سبيل التقريع والتوبيخ، وفي هذا إشارة إلى أن آلهتهم المزعومة لم تخلق شيئاً فعَلامَ تؤلَّه أصلاً؟ وهذه طائفة من الآيات التي تتحدث عن ذلك:

1. قال تعالى: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(17) في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يسأل المشركين عمَّن يملك السماء والأرض.(18) وجاء الكلام على صيغة الاستفهام وفيه استهانة بهم لفرط جهلهم بهذا الأمر البيِّن الواضح.(19)

2. قال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}(20) وفي هذه الآية الكريمة يأمر الله نبيه بسؤال المشركين عمَّن هو ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيم.(21)

3. قال تعالى: {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا  أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(22)وهنا يسأل الله المشركين عمَّن خلق لهم الأرض ليستقروا فيها، وجعل فيها الأنهار الجارية، كما خلق فيها الجبال الثوابت، وجعل حاجزاً فاصلاً بين الماء العذب والماء المالح فلا يفسد أحدهما الآخر، فهل من إلهٍ من آلهتهم فعل شيئاً من تلك الأشياء فاستحق أن يُشرَك في العبادة مع الله.(23)

4. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}(24)وكانت تلك طائفة من مخلوقات الله، سأل الله المشركين عمَّن خلقها، والغرض من الاستفهام التقريع والتوبيخ لأنَّهم يعلمون في قرار أنفسهم أنَّ الله خالق هذه المخلوقات، ولكن بسبب جدالهم عدَّد الله لهم ذلك وسألهم عمَّن خلقها، وقطعاً لجدالهم في هذا الموضوع سألهم عمَّا إذا كانوا يعرفون أي مخلوقات أخرى غير التي ذكرت وخلقتها آلتهم، وذلك كما في الآيات التالية:

أ- قوله  تعالى: {هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ  بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(25)

ب- وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }(26)

     وبعجزهم عن الإتيان بمثال واحد لمخلوق من خلق آلهتهم المزعومة- يصبح تأليهها ضرباً من الَّسفه، والغلو في الشيء ووضعه في منزلة غير منزلته الطبيعية، فلا يعقل أن توضع تلك الآلهة المزعومة أفكاً في مرتبة واحدة من الإلوهية مع الله الإله الحقُّ تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.

الحجة الثانية- الله قادر وآلهتكم عاجزة:

     وللقرآن طريقة ثانية في مقارعة المشركين بالحجة على وحدانية الله، ألا وهي طريقة المقابلة بين قدرة الله الإله الحق وعجز أفكهم المزعوم بآلهة غير الله، وذلك كما في الآيات التالية:

1. قال تعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(27)

وفي هذه الآية الكريمة بيان أن الله يجير من أراد ممن قصده سوء، ولا أحد يمنع منه لو أراده بسوء، فلا أحد يستطيع دفع عذابه وعقابه عنه.(28)

2. قال تعالى:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ  أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ  قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}(29) 

 في هذه الآية الكريمة يسأل الله المشركين عما من هو خير: ما يشركون به أم الذي يجيب المضطر ويكشف عنه السوء إذا دعاه؟ كما يستخلف منكم أمراء ومنكم خلفاء أحياء سيخلفونهم، ثم يسألهم هل من إله مع الله يفعل شيئاً من ذلك.(30)

ثم نفى عنهم التذكُّر بقوله(قليلا ما تذكرون)، ويستخدم لفظ القليل ليعني النفي في سياق بعض الكلام كما هو مستخدم في الآية الكريمة.(31)

3. قال تعالى:{ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ 

مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(32) في هذه الآية الكريمة يسأل الله تعالى المشركين: أما يشركون به خير أم الذي يهديكم في الظلمات إذا ضللتم، كما يسألهم عمن يرسل الرياح بشراً لقدوم الغيث الذي يحي به الأرض بعد موتها، فهل من إله آخر مع الله يفعل شيئاً من ذلك، تعالى الله علواً كبيراً عن شرككم وعبادتكم من دونه.(33)

4. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(34)في هذه الآية الكريمة بيان أن الشدة والرخاء بيد الله سبحانه وتعالى دليل واضح لمن أراد الإيمان بالله إذا تدبر هذه الحجة وغايتها ورآها.(35)

5. قال تعالى: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ}(36)في هذه الآية الكريمة ذكر أن تلك الآلهة المزعومة لا تنفع ولا تضر، وقد جاء ذلك في سياق حجاج إبراهيم عليه السلام مع قومه في عبادة الأصنام.(37)

6. قال تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ  قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ  أَفَمَن

يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ  فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(38)في الآية الكريمة بيان بأن الله هو من يهدي إلى الحق، ويعجز شركاؤهم عن هدايتهم إلى الطريق القويم وإرشاد الضال منهم.(39)كما قيل في تفسيرها أيضاً أن هذه الأوثان التي لا تهتدي إلى أين تنتقل إلا أن تنقل، فهل هي أحق بالإتباع من الله الذي يهدي إلى الحق.(40)

      ويتضح من خلال الاطلاع على مفردات هذه الحجة:  أنَّ آلهتهم ليست عاجزة عن الخلق من العدم فحسب بل أنها ليس لها نصيب في تصريف أمر من أمور الكون، بل حتى أنَّها عاجزة عن تدبير أمر أنفسها، فلا تملك لأنفسها دفع الضِّر عنها، وجلب النفع لها، فهي من باب أولى أعجز عن نفع غيرها أو ضرِّه، وأنَّ كلَّ ذلك جميعاً  بيد الله تعالى لا يشاركه فيه شريك، ولا ينازع فيه منازع جل شأنه وعلا علواً كبيراً.

الحجة الثالثة- تعدد النعم والمنعم واحد:

     عدَّد الله تعالى نعمه على المشركين لما لها من دلالة على وحدانيته من جهة، ومن استحقاقه للعبادة وحده من جهة أخرى، وفي الآيات التالية طائفة من نعم الله على عباده:

1. قال تعالى: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ  لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(41)وفي هذه الآية الكريمة تذكير المشركين بنعم الله عليهم، حيث خلقهم في بطون أمهاتهم ولم يكونوا يعلمون شيئاً عن ذلك المنعم الخالق، ثم أنعم عليهم مرة  أخرى بأن جعل لهم سمعاً وبصراً وفؤاداً لكل منهم، وكل هذا ما يستحق أن يقابل بالشكر لا بالشرك والكفر.(42)

2. قال تعالى: { أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ  بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ }(43)في هذه الآية الكريمة يقول الله تعالى المشركين: من الذي سيطعمكم ويسقيكم إن أمسك ربكم رزقه عنكم.(44)

3. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ  أَفَلَا تَسْمَعُونَ}(45)في هذه الآية الكريمة يأمر الله نبيه أن يقول المشركين: إن جعل الله الليل عليهم متصلاً غير منقطع إلى يوم القيامة فأي إله غير الله يأتيهم بضياء النهار؟(46)

4. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(47)وفي هذه الآية الكريمة يأمر الله نبيه بأن يقول المشركين: إن جعل الله عليكم النهار متصلاً غير منقطع إلى يوم القيامة فأي إله غير الله يأتيكم بليل تستقرون فيه وتهدؤون؟(48)

      كانت تلك طائفة من نعم الله التي أنعم بهم عليهم، وما لم يذكر أكثر،  ولم يشاركه فيها إله من أفكهم المزعوم، فلو كانوا صادقين ومنصفين في قولهم بتعدُّد الآلهة لكانوا هم عباداً لهذا الإله الذي أنعم عليهم بتلك النعم، ولما أشركوا في عبادته من لم يشاركه في الإنعام عليهم بتلك النعم.

الحجة الرابعة- استحالة قبول تعدد الآلهة عقلاً:

      وقد بين الله سبحانه وتعالى استحالة وجود آلهة مع الله، والعقل السليم يعرف ذلك ويقرُّ به، وقد جاء القرآن بحجة من هذا، وذلك كما في الآيات التالية: 

1. قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ  إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ  سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(49)في هذه الآية دليل عقليٌّ على وحدانية الله، فلو كانت هنالك آلهة غير الله لانفرد كلُّ  إله بما خلق، ولغالب القوي الضعيف منهم على عادة الملوك، ولأصبح الضعيف مغلوباً لا يستحق الإلوهية، وكل هذا يدلُّ في النهاية إلى انتفاء الشريك مع الله تعالى في ملكه وعباده ومخلوقاته.(50)

2. قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}(51)

وفي هذه الآية الكريمة يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول المشركين: لو كان مع الله آلهة كما يزعمون، إذاً لالتمست تلك الآلهة المرتبة والمنزلية عنده، ولكنه تفرد في إلوهيته وعلا عن ذلك علواً كبيراً.(52)

      ويتضح من كل هذا استحالة تعدُّد الآلهة عقلاً، لما يجب أن يحدث بينها من مغالبة، ولانفراد كل إله بما خلق، ولكن المشركين لعنادهم وكبرهم أصروا على الشرك بالله وعبادة غيره معه.

الحجة الخامسة- المطالبة بالدليل:

        وبعدما تبين أنَّ كل الأدلة العقلية والموضوعية تقتضي وحدانية الله، وتدحض تخرصاتهم القائلة بتعدد الآلهة- طالبهم القرآن بالإتيان بدليل من علم أو وحي قبل النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد ما يقولونه في هذا الصدد، وذلك كما في الآيات التالية:

1. قال تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}(53)

 2. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ  ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(54)

3. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ  ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(55)

           ويتضح من خلال السياحة السابقة أنَّ المشركين قد أثاروا كثيراً من الشبهات والافتراءات التي استندوا عليها في تبرير إشراكهم بالله، وقد جاء القرآن المكي بالحجج الدامغة التي نسفت تلك الافتراءات وفندتها، وكانت تلك الحجج مرتبة من حيث القوة في التدليل على وحدانية الله كما يلي:

1. حجَّة الخلق: الله هو الخالق ومعبوداتهم مخلوقة، ويلزم من ذلك استحقاقه للعبودية وحده دون منازع.

2. حجَّة القدرة: الله قادر على كل شيء ومعبودتهم عاجزة، وهذه الحجة تأتي في مرتبة أدنى من الحجة السابقة، وتشترك معها في التدليل على استحقاق الله للعبودية وحده دون منازع.

3. حجَّة النعم: الله هو المنعم التي عمَّت نعمه جميع المخلوقات بما في ذلك المشركين الذين يشركون غيره في عبادته، وهذه النعم جزء من مخلوقات الله من جهة ودليل على قدرته من جهة أخرى، وتأتي هذه الحجة في مرتبة أدنى من الحجتين السابقتين من جهة كونها الخلق أعم والقدرة أخص من الخلق، والإنعام جزء مخصوص من القدرة، وتشترك هذه الحجة مع الحجتين السابقتين في التدليل على استحاق الله للعبوديَّة وحده دون منازع.

4. حجَّة العقل: لا يقبل العقل السليم فكرة تعدُّد الآلهة، لاستحالة تحقُّقها، فلو وُجِدَ أكثر من إله في الكون لاختلَّ نظامه، نتيجة لما يحدث من صراع بين الآلهة للتغلُّب في الملك، وفي هذا دليل على أنَّ الإله واحد وهو خالق هذا الكون والقادر على حفظه وإزالته من الوجود.  

 

5.حجَّة النقل: تدل كل الأدلة النقليَّة(الرسالات السماويَّة) على توحيد الله، فيلزم من ذلك على المنكر الاتيان بدليل من العلم النقلي على تعدُّد الآلهة، وهذه الحجَّة تقل مرتبة عن الحجج السابقة في كون الحجج السابقة لا يمكن إنكارها جهلاً، بخلاف هذه الحجَّة ربما ينكرها بعضهم جهلاً بها أي لم يمكنهم الوصول إليها، كما تلتقي مع الحجج السابقة في التدليل على استحاق الله للعبوديَّة وحده دون منازع.     

          وهذه الحجج مازلت قائمة وصالحة للرد على كل من أنكر إلوهية الله سبحانه وتعالى واستحقاقه العبادة وحده لا شريك له.

__________________________

(1) ابن منظور، محمد بن مكرم،  لسان العرب، دار صادر، بيروت، (ت. د)، مادة: (سلم)، ج12/ ص 299.

(2) المرجع السابق، مادة: (حجج)، ج: 2، ص: 228.

(3) أبوبكر العزاوي، اللغة والحجاج، العمدة في الطبع، الدار البيضاء، 2006م، ص 16.

(4) طه عبد الرحمن، اللسان والميزن أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1998م، ص 277.

(5) سورة الحجر: الآية: ٩٤.

(6) ابن هشام، السيرة النبوية، ج: ١/ ص (٢٩٥- ٢٩٨).

(7) سورة ص: الآية: 5.

(8) الطبري، تفسير الطبري، تح: بشار عواد معروف وعصام فارس الحرستاني، مؤسسة الرسالة، بيروت،  1994م ، ج6/ص ٣٣٥.

(9) سورة ص: الآية: 6.

(10) الطبري، تفسير الطبري، ج ٦/ ص: ٣٣٥.

(11) الزمخشري، محمود بن عمر، تفسير الكشاف، تعليق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، 2009م،

ص ٩١٩.

(12) سورة ص: الآية: ٧.

(17) سورة المؤمنون: الآية: ٨٤.

(18) الطبري، تفسير الطبري، ج ٥/ص ٣٨٠.

(19) الزمخشري، تفسير الكشاف، ص ٧١٣.

(20) سورة المؤمنون: الآية: ٨٦.

(21) الطبري، تفسير الطبري، ج ٥/ ص ٣٨٠.

(22) سورة النمل: الآية: ٦١.

(23) الطبري، تفسير الطبري، ج ٥/ ص ٥٧٤.

(24) سورة العنكبوت: الآية: ٦١.

(25) سورة لقمان: الآية: ١١.

(26) سورة فاطر: الآية: ٤٠.

(27) سورة المؤمنون: الآية: ٨٨.

(28) الطبري، تفسير الطبري، ج ٥/ص ٣٨١.

(29) سورة النمل: الآية: ٦٢.

(30) الطبري، تفسير الطبري، ج ٥/ ص ٥٧٥.

(31) الزمخشري، تفسير الكشاف، ص ٧٨٧.

(32) سورة النمل: الآية: ٦٣.

(33) الطبري، تفسير الطبري، ج ٥/ ص (٥٧٥-٥٧٦).

(34) سورة الروم: الآية: ٣٧.

(35) الطبري، تفسير الطبري، ج6/ص (١٠٧- ١٠٨).

(36) سورة الأنبياء: الآية: ٦٦.

(37) الطبري، تفسير الطبري، ج ٥/ ص ٢٦٥.

(38) سورة يونس: الآية: ٣٥.

(39) الطبري، تفسير الطبري، ج ٤/ ص ٢٠٨.

(40) الزمخشري: تفسير الكشاف، ص ٤٦٣.

(41) سورة النحل: الآية: ٧٨.

(42) الزمخشري، تفسير الكشاف، ص ٥٨٠.

(43) سورة الملك: الآية: ٢١.

(44) الطبري، تفسير الطبري، ج ٧/ص 340.

(45) سورة القصص: الآية: ٧١.

(46) الطبري، تفسير الطبري، ج ٦/ص ٤٣.

(47) سورة القصص: الآية: ٧٢.

(48) الطبري، تفسير الطبري، ج ٦/ص ٤٣.

(49) سورة المؤمنون: الآية: ٩١.

(50) القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، تح: عبد الله بن عبد المحسن التركي ومحمد رضوان عرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: 1، 2006م، ج ١٥/ ص ٨١.

(51) سورة الإسراء: الآية: ٤٣.

(52) الطبري، تفسير الطبري، ج ٥/ ص ٣٣.

(53) سورة الروم: الآية: ٣٥.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3) (نظريَّة تضافر القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)