عيد ميلاد

 

عيد ميلاد

محمد إبراهيم محمد عمر همد


 

     سأحتفل اليوم بعيد ميلادي، سأحتفل بذلك رغم أنف الجميع، وقد نصحني بعضهم ألَّا أفعل ذلك، هذه المرة الأولى التي سأحتفل فيها بعيد ميلادي، لقد مضت سنوات عمري السابقة دون أن احتفل بهذه المناسبة، إذ لم تكن ظروفي الماديَّة تسمح بذلك، ولا محيطي الاجتماعي كان يهتمُّ بذلك، ولكن في الفترة الأخيرة تغيَّرت أشياء كثيرة في المجتمع، كما طرأت زيادة طفيفة على راتبي، وخشية أن أُنعَت بالبخل، أو أُوصَف بالتخلُّف، ومواكبةً مني لروح العصر، قررت أن أحتفل اليوم – السابع من مارس – بعيد ميلادي، وذلك لأوَّل مرة في حياتي. أعددت كلَّ شيء، بدء من تهيئة البيت للمناسبة السعيدة، وحتى تجهيز (التورتة) الكبيرة، وكذلك الشموع الملوَّنة، وقد صار كلُّ شيء معدَّاً للاحتفال، وكنت قد أخبرت أصدقائي وشدَّدت عليهم في الدعوة، فوعدوني بالحضور.

     أقبل المساء، انتابني  إحساس بأنَّني إنسان مهمٌّ ورقم لا  يمكن تجاوزه، أحسست بذلك وأنا أحصي الكراسي البالغ عددها ثلاثين كرسيَّاً، وقد استعرتها من بعض جيرتي، لقد صار المسرح أعني البيت معدَّاً للمناسبة المهمَّة، وهأنذا في كامل استعدادي لتلقِّي الهدايا وتهنئة الأصدقاء، الآن بدأت أدرك معنى أن يحتفل الإنسان بعيد ميلاده.

      أشارت عقارب الساعة إلى التاسعة مساء ولم يحضر أحد! بدأت أقلق، ولكن بددت قلقي بابتكار أعذار لتأخّر أصدقائي، وخاصة أولئك الذي يقطنون بعيداً عن مسكني هذا، و ظروف الطريق قد تأخِّر الشخص ساعة عن موعده، ولكن ما سبب تأخّر أولئك الذين يقطنون قريباً من مسكني؟! أغلب أولئك الذين يسكنون على مقربة من سكني متزوجون، و للمتزوجين ظروفهم الخاصَّة، وهؤلاء المتزوجون لا يمكن للمرء أن يثق بوعودهم، ولا يُعوَّل على دقة مواعيدهم، إذ إنَّ مثل هذا الحضور إلى مناسبة كهذه يحتاج إلى خروج من البيت بعد ساعات العمل الرسميَّة، وذلك الخروج يحتاج إلى إذن مسبَّق من الزوجة، وغالباً ما يكون هذا الإذن مقروناً بتهديد صارم، ويكون محدَّداً بوقت معين(من- إلى) في دِقَّة واضحة لا تقبل التأويل، هذا طبعاً إذا كانت الفرصة مواتية، وإلَّا فإنَّ الزوج سيتودد لمانح الإذن- زوجته- بكلِّ السبل بدء من كلمات الغزل الرقيقة التي لم يستعملها منذ سنوات، وتقديم وعود معسولة بهدايا لأعياد ومناسبات لم يحن وقتها بعد، فيصيبها كلُّ ذلك بالغرور، بل هذه الجرعة المضاعفة من اللطف ستزيدها شكاً وهي متشكِّكة أصلاً، حينها ربما يغيظ الزوج تجاهل زوجته له، ولكن يكتم غيظه، لأنه يعلم أن مثل هذا المشكل يجب أن يحلَّ بهدوء، كما أنَّ الوقت لا يسمح بالشجار والمناقشة الساخنة، يحاول أن يتجاهل تجاهلها له، وهي تشغل نفسها بتصفح القنوات الفضائيَّة، بل تحاول أن تبدو مندمجة مع ما يعرض عليها، فيستغل الزوج المناسبة، مناسبة توقفها عند هذه القناة الفضائية بالذات، يثني على حسن اختيارها، ودقَّة توقيتها الذي اختارت فيه التوقف عند هذه القناة الفضائية، كما يثني على حسَّها الفني الموجَّه باختيارها هذا (الفلم) الاجتماعيَّ التربويَّ الهادف، وستتجاهل زوجته كلَّ ذلك، وسيفطن إلى سذاجة السبل المراهقيَّة  التي مازال يتبعها مع زوجته، وسيبدو له كلُّ ذلك سخيفاً، سيفكر وسوف يهديه تفكيره إلى أنَّ الحب بعد عشرة سنوات من الزواج يجب أن يأخذ طابعاً عملياِّ، وقد مضى ذلك الجانب الرومانسي الحالم منه، يشرع في تنفيذ ذلك عملياً، يحمل أطفاله إلى الحمام، يغسل أطفاله بإتقان ويغيِّر لهم ملابسهم، يشدُّ عليهم حفاظاتهم ويلبسهم ملابس النوم، وبما أنَّ الاعمال المنزلية تثقل كاهل زوجته فإنَّه يجمع أواني طعام الغداء، والتي لم تغسل بعد مع أن الساعة تشير إلى التاسعة مساء، يجمع الأواني ثمَّ يشرع في غسيلها وتلميعها، لاشك أنَّ ذلك سيعجب زوجته، وسترضى عنه بسبب هذه المساعدة الفاعلة، وتسمح له بالخروج، على ذكر الخروج يلقي نظرة على الساعة، يجدها تشير إلى الحادية عشرة مساء، يجد أنَّ الوقت قد مضى، وأنَّ كلَّ جهوده قد ذهبت سدى، يترك بعض الأواني لم تغسل بعد، ينفض يديه اللتين بدأتا تتجعدان من الغسيل، ويأوي إلى فراشه غاضباً.    

       ولذلك أحمد الله كثيراً على أنَّني لم أتزوج بعد، بالرغم من أنَّ الرغبة في الزواج موجودة، وأنَّ الظروف الماديَّة هي التي تحول دون ذلك، وقد كان هذا البيت يحوي يوماً ما أربعة رجال غير متزوجين، بما فيهم أنا طبعاً، وقد كانوا ذوي عقول نيِّرة، وقد تفَّتقت عقولهم ذات يوم على معاهدة، معاهدة عدم الزواج، وذلك احتجاجاً على الظروف الماديَّة والأوضاع المتردِّية، ونسبة لغلاء المهور، وعدم تفهُّم أولياء الأمور هذه الأسباب التي تحول دون إتمام الزواج، وبالرغم من أنَّ المعاهدة لم تكن مكتوبة، ولم يبصم عليها أحد بإبهامه، أو يوقَّع عليها بالأحرف الأولى من اسمه، تقيَّدوا بها لفترة طويلة، بل قرروا أن يدعو جميع الشباب للانضواء تحت مظلتها، بعد فترة تحسنت ظروفهم الماديَّة، وبدأ الإخلاص للتقيُّد بالمعاهدة يتلاشى، والرغبة في خرقها تكبر حتى خرقها أكبرهم سنَّاً، وقد اكتشف أنَّ عمره قد بلغ الأربعين، كما اكتشف أنَّه لم يتبقَّ من شعر رأسه سوى بعض الشعيرات في ركن منزوٍ من رأسه على شكل شارب متواضع، خرق المعاهدة، تزوج وترك لنا سريره خالياً، وقد كان الثاني – بترتيب سنوات العمر- ينتظر فرصة كهذه لخرق المعاهدة، بل كان متعطشاً إلى ذلك، لولا أنه يحتاج إلى مبرِّر خلقيٍّ لخرق المعاهدة، وقد وجده، خرقها هو أيضاً  تزوج وترك لنا سريره خالياً، تبقَّي الرجل الثالث وأنا! وقد أحسست بأنَّ لديه رغبة صادقة في الزواج بل خرق المعاهدة، ولولا أنَّه يشفق عليَّ من الوحدة لتزوج وتركني، وقد تبدَّى ذلك من جمعه لأثاثات ومتطلبات الزواج، وكذلك من  مبيته خارج البيت كثيراً، كما  صار يبتعد عنِّي، بل ويخرج من البيت عندما يرن جرس هاتفه -المحمول- منبِّهاً بوجود مكالمة واردة، وقد كان فيما مضي يردُّ على مكالماته بحضوري، حينها بدأت أشعر بالذنب الذي ارتكبته بحقه، إذ صرت أحول بينه وبين الزواج، فأخبرته بلهجة مهذَّبة ومحايدة، وأفهمته بأنَّه لا مانع لدي من أن يتزوج، وأنَّني لن أعتب عليه لذلك، وأنَّه في حلٍّ من المعاهدة التي خرقها الرجلان الآخران قبله، وقد منحته درساً مجَّانياً عن المعاهدات والمواثيق، وكيف أنَّها تفقد أهميَّتها بفقدها النصاب المحدد لاستمرارها، وكيف أنَّ معاهدتنا تلك فقدت نصاب الأكثريَّة الذي يضمن استمراريَّة التقيُّد بها، وذلك بخروج صديقينا الآخرين منها سلفاً، يبدو أنه كان ينتظر ذلك، وقد انتظر طويلاً، غادرني في ذات اليوم وقد جمع أغراضه المعدَّة مسبقاً للزواج، وقد تزوج وترك سريره خالياً أيضاً، بقيت أنا وسريري وثلاثة أسرة خالية، لقد صرت الوحيد الذي تبرَّأ من خرق المعاهدة، وأنا في حلٍّ منها، ومع ذلك أتقيَّد بها رغم أنفي، إذ إنَّ ظروفي الماديَّة لم تسمح بالزواج بعد.

     لم أعد أراهم من ذلك اليوم إلا نادراً وعن طريق الصدفة، وقد طرئ عليهم التغيُّر، لم يعودوا أولئك الشباب الذين يهتمون بمظهرهم وأناقتهم، بل كان بعضهم يحسدني على حياتي هذه، وقد كنت أشفق عليهم عندما يتندرون عن حياتهم الزوجيَّة، وقد كنت أحياناً أتعمَّد استفزازهم، إذ أذكر لهم بأنَّني إنسان حر لا يقيد حريتي أحد، أذهب إلى البيت متى أشاء، وأنفق من الوقت والمال ما أشاء، وأنام متى ما أشاء، لا أحد يحاسبني على أفعالي وتصرفاتي، ولا أقدم قائمة بتحركاتي وأقوالي لأحد، بل لا أحد يسألني عن سبب تأخيري كما أنني أضمن بحريَّتي الحريَّة لهاتفي المحمول، إذ إنَّني لست مضطراً لمسح بعض الرسائل التي ترسل إليَّ، ولن يتعرض هاتفي لتفتيش مفاجئ من أحد بين كل فترة وأخرى، ولست مطالباً بوضعه في

متناول يد أحد ادعاء للنزاهة والشفافيَّة، فيزداد حينها حسدهم لي على هذه الحرية المطلقة، إلَّا أنَّ لهذه الحريَّة بعض المساوئ، فقد بلغت الأربعين من عمري ولم أتزوج بعد، الإحساس بالوحدة يجثم على قلبي فيذيدني اكتئاباً وحزناً، وقد بدأ الأصدقاء ينسلون من حياتي القاحلة التي لا تروق أحداً، لا زوجه تشاركني أفراحي وهمومي، مللت من العودة المتأخرة ليلاً، وقد طال شوقي لزوجة تنتظرني ثمَّ تعاتبني وتغضب لعودتي المتأخِّرة، سيجعلني ذلك العتاب والغضب أحسُّ بأنَّ هنالك من يهمُّه ويقلقه تأخيري، ولولا الظروف الماديَّة الحرجة لتزوجت الآن وتنازلت عن تلك الحرية المغشوشة طائعاً.

      صدم قدمي من شدة الانفعال أحد أطراف المنضدة، اهتزَّت لذلك، وسقطت الشموع على الأرض، رفعتها ووضعتها في مكانها على الطاولة، صوبت نظرة على الساعة الحائطيَّة، وجدتها تشير إلى الحادية عشرة مساء، ولا أحد حضر من المدعوِّين ! ولا أحد من المدعوِّين كلَّف نفسه مشقة الاعتذار بالاتصال على هاتفي المحمول ! على ذكر الهاتف أخرجت هاتفي المحمول من جيبي، وجدته في وضع صامت (#)، ووجدت على شاشة الهاتف ثلاثين رسالة نصِّية بعدد المدعوِّين! وقد كان محتوى الرسائل متشابهاً، من نوع (آسف لا يمكنني الحضور)، وقد غضبت لذلك غضباً شديدا، هممت بدهس الشموع بقدمي، والقذف بإناء (التورتة) و(التورتة) على الحائط، ولكن تراجعت عن ذلك بصعوبة، وهدَّأت غضبي، ما ذنب هذه الشموع- التي ستدهس بالقدم- وقد كانت على استعداد وأريحيَّة تامة للاحتراق من أجل الاحتفال بعيد ميلادي، وما ذنب هذه (التورتة) حتي يُضرَب بها الحائط، وقد كانت على استعداد وكرم  لأن تجود بنفسها لالتهامها بمناسبة عيد ميلادي، بل ما ذنب راتبي الذي أنفقته على شراء الشموع و(التورتة) ومستلزمات الاحتفال حتى يذهب سدى، بل ما ذنبي أنا – صاحب الراتب المغلوب على أمره والمنفق علي شراء كل هذه الأشياء – حتى أغضب وأفعل براتبي كلَّ ذلك، كلُّ ذلك لأنَّ بعض الأصدقاء لا يقيمون وزناً للدعوة، أو لم تسمح لهم زواجاتهم بالخروج ! ربَّما لست مهمَّاً، أو ربَّما لا يقيمون وزناً لحريَّتهم الشخصيَّة والمشاركة في مناسبات أصدقائهم، اعتقد أنَّ السبب الأخير مناسب ولكن الأوَّل مستحيل، إذ إنَّ الرجل الذي يحتفظ بحريَّته أربعين عاماً لا يقلُّ منزلة عن أولئك الذين يمنحون وسام الجمهورية. جمعت الشموع وقد استعدت هدوءي، ستكون مفيدة أثناء قطوعات الكهرباء، قضمت من (التورتة) ثمَّ وضعتها بإنائها داخل الثلاجة، ستكون مفيدة جداً بالتهامها مع شاي الصباح، أغلقت بابي، وأويت إلى فراشي، ثمَّ سحبت الغطاء لرأسي، ولم أنسَ أن أقول لنفسي: عيد ميلاد سعيد يا (...)،لا داعٍ لذكر أسماء، لا أحد يقيم وزناً لذلك.

تعليقات

  1. سرد جميل و طويل

    ردحذف
  2. أنا أعلم سر تخلفهم السر في الزوجات فهن يظنن أنك خطر عليهم ومنافس لهم في أزواجهم ودعم العزوبية ..أهنئك صديقي على أسلوبك السردي الجميل وعلى احساسك المرهف العالي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

الأدب التفاعليُّ بين مؤيِّديه ومعارضيه