الجائزة (قصة قصيرة)
الجائزة
محمد إبراهيم محمد عمر همد
أقبل المساء، هأنذا
أسابق أطفالي إلى الجلوس أمام التلفاز، جلست وبي لهفة يشوبها القلق بين اليأس
والأمل، أخيراً قد أتى هذا اليوم، بل هذا المساء، سيتمُّ بعد قليل إذاعة اسم
الفائز في مسابقة رمضان الكبرى، لم أكن أتوقَّع أن يأتي هذا اليوم، بل لم أكن أتوقَّع
أن أشارك في هذه المسابقة من الأصل، لولا أنَّ صديقي علاء أتاني بأسئلة المسابقة
وقد عجز عن التوصل إلى حلولها، أتى كي أضع حدَّاً لمعاناته، ومد يد العون له بأن
أحلَّ له ما عجز عنه من أسئلة المسابقة، وقد كان له ما أراد، بل كان كرماً منه كما
قال بأنه أشركني في هذه المسابقة نظير المشاق المتكبَّدة في سبيل حصولي على كلِّ
هذه المعارف التي تمكَّنا بها من التوصل إلى الإجابات الصحيحة لها. ها هو صوت
المذيعة الرخيم يعلن:
سيداتي سادتي أقبل أخيراً اليوم الذي انتظرتموه طويلاً،
سيتمُّ الآن اختيار الفائز في مسابقة رمضان ومعي السيد مدير التلفزيون القومي
لاختيار صاحب الحظ السعيد، مع تمنياتنا بالفوز لكلِّ المشاركين، فليتفضَّل سيادته
مشكوراً.
(أفٍّ)، لقد سئمت هذه الجملة السخيفة (مع تمنياتنا بالفوز لكلِّ المشاركين) مع علمهم
بأنَّهم يحتاجون لفائز واحد، وأكاد أشك بأن يكون من البشر لكثرة المشاركين
والراغبين في الفوز، لم أكن بطبعي أميل للمشاركة في مثل هذه المسابقات، بل لم أكن
أضع المشاركة أو الفوز بمسابقة ما في قائمة طموحاتي المستقبليَّة، ربَّما كان ذلك
تشاؤماً منِّي، ولكن بما أنَّني اشتركت في هذه المسابقة فهذا يعدُّ أملاً منِّي
فيها، بل الأمل نفسه، لقد علمت أخيراً أنَّ الحاجة إلى الفوز بمثل هذه المسابقة
تتناسب طردياً مع الأمل في نيلها ونسبة لحاجتي الماسة إلى المال في هذه المرحلة من
حياتي تراني مترقِّباً ومتوجِّساً مما سوف يعلن عنه الآن، أتمنى أن أكون صاحب الحظ
السعيد. ها هو مدير التلفزيون يتناول مظروفاً ملوَّناً، يبدو أن لونه أخضر، يشبه
المظروف الذي أرسلت فيه مشاركتي، ها هو يفتحه ببطء يكاد يوقف نبضات قلبي الواهية،
ها هو صوت المذيعة الرخيم يذيع اسم الفائز من بين سبعة آلاف من المشاركين:
فائزنا اليوم هو صدِّيق محمد فضل.
هأنذا أقفز من الكرسي وأسقط على الأرض من
وقع المفاجأة! وأطفالي يقبلوني، وتنهمر الدموع من عيني زوجتي لشدَّة الفرح، أركض
لأصل غرفة والدتي، وأخبرها بالمفاجأة السعيدة وأنا أتراقص من الفرح، حتى صارت أمي
تشكُّ بأنني قد أصبت في عقلي وفقدت صوابي، ومالي لا أفقد صوابي! فمبلغ عشرة مليون
دينار سبب مناسب للإصابة بالجنون! جنون الفرح المباغت ! لن ننام هذه الليلة سنحتفل
أنا وأفراد أسرتي حتى الصباح.
أشرق الصبح إشراقه محبَّة وتقدير مفاجئ لي
من أفراد أسرتي، سألت زوجتي عن زمن استلام الجائزة فقد نسيت أن أسمع ذلك في غمرة
الفرح الذي انتابني بالأمس، أخبرتني بأنَّ ذلك غداً، يلتف الكلُّ حولي، يحاصروني
بطلباتهم منها ما هو آنيٌّ، ومنها ما هو بعد استلام الجائزة، أعطيتهم وعوداً بذلك،
تسبَّب كلُّ ذلك في تأخيري عن مواعيد عملي، وصلت إلى المؤسسة، وإذا بوجه المدير
العبوس يكاد يلتهمني، عاتبني بحزم لم اعترض عليه فيما مضي، ولم يعد ما يجبرني على
سماعه الآن، فرددت له الصاع صاعين، وبمظهر بطولي زائف تناولت ورقة وكتبت عليها
استقالتي، يكفيني ما ردَّدته عشرين عاماً لـ (كلمة سيدي) وقد حُقَّ بأن تُقال لي
بعد اليوم، قُبلَتْ استقالتي غير مأسوف عليها، بل لم أكن انتظر شيئاً من ذلك،
خرجت من باب المؤسسة، ذهبت إلى
البنك لسحب مدخراتي، وجدتها قد بلغت ثمانين ألف دينار، اشتريت منها الهدايا التي
وعدت بها أبنائي، وكذلك الكثير من أصناف الطعام التي حرمتهم منها فيما مضي من
حياتهم، تبقي معي مبلغ عشر ألف دينار، يكفي لشراء احتياجات البيت في الغد، وقد كان
يكفيه من قبل مبلغ ألف دينار بما في ذلك المتطلَّبات المدرسيَّة، أخيراً وصلت إلى
داري والكلُّ في انتظاري، وهالة ضخمة من الأهميَّة تحيط بكياني، وزَّعت عليهم
الهدايا وأصناف الطعام، خرجت والدتي من غرفتها تتساءل عيناها عن هذا الرخاء
المفاجئ، فأجبت متحدِّثاً بفخر عن كل ما فعلته منذ الصباح، فيخرج صوتها واهياً
والعبرات تتلاعب بأوتاره:
ما الذي حملك على فعل ذلك يا بني؟
- ماذا كنت
تتوقعين أن أفعل؟ يكفيني ما خدمته بهذه المؤسسة، ولم أعد بحاجة إليها بعد اليوم، وفي
الغد سوف استلم الجائزة التي فزت بها. هل تدرين كم تبلغ ؟ إنَّها عشرة ملايين يا أمي.
تكفي أن نعيش سائر الدهر في ترف وبذخ.
- أسفى عليك يا بني. مازلت صغيراً لم تتعلَّم بعد. أنَّه لغباء منك
أن تضيع عملك ومستقبل أبنائك باعتمادك على استلام الجائزة. إنك "كمن يضع
غذاءه في يد غيره، فلن يضمن وصوله إلي فيه أبداً"
قالت ذلك ثم ابتعدت تجرِّر قدميها. وفي صباح
اليوم التالي ذهبت إلى مبني التلفزيون، وصلت قبل أكثر العاملين به، وجدت شرطياً
صارم الملامح فأخبرته بأنني الفائز بالجائزة، وربَّما أعلموه بحضوري من قبل، إذ لم
يمنعني من دخول المبني بعد التأكد من هويتي، ودخلت علي موظف الاستقبال فتحقَّق هو أيضا
من ذلك، ودعاني للجلوس، ثم دلف إلى حجرة مجاورة. فتح الباب ودخل معه موظف آخر
حيَّاني بتواضع، ورحَّب بي كأنَّه يعرفني قبل أن تلدني أمي، وهو يقول:
إذن أنت صدِّيق محمد فضل، الفائز
في مسابقة رمضان الكبرى.
ناولته بطاقتي الشخصيَّة، أخذها وخرج، ثمَّ
عاد بعد برهة ومعه المذيعة اللامعة والتي تشرَّفت بنطقها اسمي، شيئاً ما أقلقني
وهما داخلان الغرفة عليَّ، لم يعجبني تهامسهما، ترتفع نبضات قلبي، يقتربان منِّي،
وفي يدها المظروف الذي أرسلت فيه مشاركتي، وسبق أن رأيت قد فضَّه مدير التلفزيون
القومي، فهدَّأ ذلك من روعي، ولكن ما سمعته منها
كان آخر شيء يمكن أن أتوقَّع سماعه الآن:
نعتذر يا سيدي، لقد حدث تطابق في
الأسماء، فالمفروض أنَّ من أذعنا اسمه هو صدِّيق محمد فضل مصطفى، وأنَّ اسمك
المكتوب على البطاقة هو صديق محمد فضل م...
لن انتظر سماع اسم جدي من فيها، لأنَّني
أعلم أنَّ اسمه محمود وليس مصطفى، ها هي الأرض تميد بي، بل تُسحَب من تحت قدمي،
غمامة سوداء تغطِّي عيني، وصوت أمي يطنُّ في أذني:
أنَّه لغباء منك أن تضيع عملك ومستقبل أبنائك بالاعتماد على استلام الجائزة أنَّك "كمن يضع غذاءه في يد غيره، فلن يضمن وصوله إلى فيه أبداً."
تعليقات
إرسال تعليق