من موضوعات خطاب القرآن المكِّيِّ (5) (البعث والنشور)

من موضوعات خطاب القرآن المكِّيِّ (5)

(البعث والنشور)

                                                             أ. محمَّد إبراهيم محمَّد عمر همَّد محمود





 

معنى البعث: 

    يأتي البعث في كلام العرب لمعنيين: أحدهما: الإرسال، وذلك كما في قوله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى}(1)أي أرسلنا. والآخر : إحياء الله الموتى، وذلك نحو قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ }(2) أي أحييناكم.(3)

       كما يستخدم لفظ (النشر) مرادفاً للبعث، وهو من"نشر الله الميت ينشره مشيراً ونشوراً، وأنشره فنشر الميت لا غير: أحياه.".(4)

موقف المشركين من البعث:

      أنكر مشركو العرب قضية البعث بعد الموت، وجادلوا في ذلك جدلاً طويلاً، ومن ذلك ما نزل في الوليد بن المغيرة وصحبه وجاء على لسانهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}(5)

وفي قولهم(أئذا متنا) تعجب واستنكار واستبعاد البعث بعد الموت،(6) فجاء رد القرآن الكريم على استفهامهم بقوله تعالى: {قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}(7) وهنا رد القرآن على قولهم (كنا) ب(كونوا)، أي كأنَّما قيل لهم كونوا حجارة أو حديدا أو أي شيء مما يكبر في نفوسكم ولا تكونوا عظاما، فإن الله قادر على أن يبعثكم،(8) وقد جاء الرد على استفهامهم بصيغة الأمر هنا في قوله(كونوا) والغرض من ذلك التعجيز والإهانة والتوبيخ.(9) وذلك رداً على تعجبهم واستبعاد هم للبعث، ثم قرن ذلك بدليل عقليٍّ تسِّلم به عقولهم ألا وهو اعترافهم بأن الله هو خالقهم، لذلك رد عليهم بأنه سيعيدكم {الذي فطركم}(10) ثم يبين الله تعالى  في موضع آخر من السورة مآلهم يوم القيامة، وما ينتظرهم من عقاب بالسحب في نار جهنم على وجوههم وهم عميا وصما وبكما، يقول تعالى: {نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا* ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا* أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ }(11) فرد الله سبحانه وتعالى على استفهامهم بدليل عقلي آخر ألا وهو الاستدلال بخلق الله السماوات والأرض، ولا شك أن من خلق السماوات والأرض على كبرهما فهو قادر على خلق غيرهما من الإنس والجن، وذلك كما في قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ }(12) وجاء الرد على استفهامهم هنا بأسلوب الاستفهام، والغرض منه الإنكار عليهم وتوبيخهم وتقريعهم،(13)لأنَّهم يعلمون بدليل العقل قدرة خالق السماوات والأرض على خلق أمثالهم من الإنس، لأن خلقهم ليس بأكبر من خلقهن.(14)

      والردُّ على استفهام الكفار عن البعث باستفهام آخر ظاهرة بلاغية كثيرة ومنها ما جاء في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا( 66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا }(15) فاستفهام الإنسان(والمراد الكفار) يراد به الاستنكار والاستبعاد،(16)

 فجاء الرد عليه باستفهام آخر يدل على الإنكار والتوبيخ والتقريع.(17)

      وقد بيَّن الله تعالى لهم أنَّ ما يقولونه من إنكار البعث هو عين ما كان يقوله الكفار من قبلهم من الأمم السابقة، ويقول الله تعالى عنهم: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ﴿81﴾ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴿82﴾ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }(18) واستفهامهم هنا يراد به الإنكار والاستبعاد،(19)وجاء ردُّ القرآن على استفهامهم الذي يقصد به الإنكار والاستبعاد باستفهام فيه استهانة بهم لجهلهم بالديانات، ولجهلهم أمراً بيِّناً ظاهراً كهذا، إذ يقول الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }(20) ثم ذكر الله تعالى ما سيقولونه: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }(21)

والمعنى لو كنتم تعلمون أنَّ الله هو من فطر السماوات والأرض على غير مثال سابق فستعلمون أنَّه قادر على إعادة خلقكم.(22)

     يتضح مما سبق أن المشركين قد أنكروا البعث كبراً وافتراء على الله، ولم يستندوا في إنكارهم على أي دليل من العلم أو العقل، ومع ذلك حرص القرآن الكريم على إقامة الحجة عليهم، وهذا من عظمة القرآن وأنه خاتم الرسالات السماوية، إذ تظل هذه الأدلة _التي أقامها على المشركين في موضوع البعث _ صالحة الرد وإفحام كل من ينكر هذه القضية إلى قيام الساعة.

 

___________________

(1) سورة  يونس: الآية: 75.

(2) سورة البقرة : الآية: 56.

(3) ابن منظور، لسان العرب، مادة: (بعث) ج: ٢، ص: ١١٧.

(4) المرجع السابق، مادة(نشر)، ج: ٥، ص: ٢٠٦.

(5) سورة الإسراء: الآية: ٤٩.

(6) أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف بن علي، تفسير البحر المحيط، تحقيق: عبد الرازق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (ت. د)، ج: ٦، ص: ٥٥.

(7) سورة الإسراء: الآية: ٥٠.

(8) الزمخشري، محمود بن عمر، تفسير الكشاف، تعليق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، ط: ٣، ٢٠٠٩م، ص: ٥٩٩.

(9) مخيمر صالح، معجم الأساليب البلاغية في القرآن الكريم، دار الكتاب الثقافي، إربد، ٢٠٠٥م، ص: ٦٨.

(10) سورة الإسراء: الآية: ٥٠.

(11) سورة الإسراء: الآية: (٩٧- ٩٨).

(12) سورة الإسراء: الآية: ٩٩.

(13) مخيمر صالح، معجم الأساليب البلاغية في القرآن الكريم، ص: ٣٥.

(14) الزمخشري، تفسير الكشاف، ص: ٦٠٩.

(15) سورة مريم: الآية: (٦٦-٦٧).

(16) الزمخشري، تفسير الكشاف، ص: ٦٤٢.

(17) مخيمر، معجم الأساليب البلاغية في القرآن الكريم، ص: ٣٥.

(18) سورة المؤمنون: الآية: (٨١-٨٣).

(19) مخيمر، معجم الأساليب البلاغية في القرآن الكريم، ص: ٣٦.

(20) سورة المؤمنون: الآية: ٨٤.

(21) سورة المؤمنون: الآية: ٨٥.

(22) الزمخشري، تفسير الكشاف: 7.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

الأدب التفاعليُّ بين مؤيِّديه ومعارضيه