من موضوعات خطاب القرآن المكِّيِّ (4)

 

من موضوعات خطاب القرآن المكِّيِّ (4)



(المشركون والملائكة)

                                                                أ. محمَّد إبراهيم محمَّد عمر همَّد محمود

 


زعم المشركين عن الملائكة:

 

            زعم المشركون أنَّ الملائكة إناث، وأنَّها بنات الله، وقد تنزه الله عن ذلك وعلا علواً كبيراً، وسجل القرآن الكريم أقوالهم في ذلك، وتكفَّل بالردِّ عليها، وببيان فسادها، وهذه طائفة من الآيات التي تسجل ذلك:

1. قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ}(1)

في هذه الآية الكريمة ذكر لقول المشركين: أنَّ الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك وعلا علواً كبيراً، فهم يجعلون له البنات، ويدعون لأنفسهم بما يشتهون(البنين).(2)

2. قال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ﴿149﴾ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴿150﴾ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ﴿151﴾ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }(3)

في هذه الآيات الكريمات ذكر لشبهة المشركين عن الملائكة بأنهم إناث وإنهم ولد الله، فهل شهدوا خلق هذه الملائكة حتى يدعون بأنها إناث، ومع ذلك من كذبهم ليقولون عن الملائكة إنها ولد الله، كل ذلك كذباً وأفكا وافتراء على الله تعالى.(4)

3. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَىٰ}(5)

في هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى أن المشركين يجعلون الملائكة إناثاً، إذ يسمونها بنات الله.(6)

      كانت تلك طائفة من الآيات التي ذكرت شبهة المشركين في الملائكة، والتي تتلخص في

أمرين هما: أنَّ الملائكة إناث، وأنَّها بنات الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

الرد على شبهة المشركين:

      وقد أبطل الله تعالى تلك الشبهة التي أثاروها من جانبيها، فمن جانب قولهم بأنَّها إناث كان الرد عليهم كما يلي: 

1. عدم حضور المشركين وقت خلق الملائكة فمن أين لهم أن يعرفوا بأنَّها إناث: قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}(7)

في هذه الآية الكريمة ذكر الله تعالى أن المشركين قد جعلوا الملائكة إناثاً، فهل شهدوا خلق الملائكة حتى يصفونها بأنها إناث، وقد بين الله تعالى أن قولهم هذا سيكتب وسيسألون عنه في الآخرة، وسيطالبون بالبرهان عليه.(8)

2.إنَّ قولهم ذلك لا يقوم على مشاهدة ولا علم: قال تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ( 27 ) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا }(9)

في هاتين الآيتين الكريمتين بيان بأنَّ المشركين يجعلون الملائكة إناثاً ظنَّاً وتوهماً بغير علم، ولا يغني الظن عن الحقِّ في كشف حقيقة الشيء وماهيَّته، لأنَّ ذلك لا يكون إلا بالعلم والمعرفة، وهذا الذي تفتقد إليه دعواهم تلك.(10)

3. تقريعهم وتوبيخهم بأنَّ هذا الذي جعلوه لله لا يرضونه لأنفسهم،  قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُۥ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ }(11)

وفي هذه الآية بيان لمدى كراهية المشركين للإناث، حتى إذا بشر أحدهم بميلاد أنثى اسود وجه حزناً من ذلك.(12)

أما من جانب قولهم بأنَّها بنات الله فكان الرد عليهم كما يلي:

1. لا معقولية أن يكون لله ولد- وقد تعالى عن ذلك- ولم تكن له زوجة: قال تعالى عن ذلك: {بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٌ ۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍۢ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ }(13)

في هذه الآية الكريمة رد مفحم على المشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله، فبيَّن لهم أنَّ الله خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق، ومن كانت صفته تلك فكيف يكون له ولد، كما أنَّ الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبما أنَّه ليس له زوجة فلا تصح تلك الولادة المزعومة، فضلاً عن أنَّ الله خالق كل شيء فما حاجته إلى ولد، والولد من طلب المحتاج، والله غني كل الغنى عن عباده وهم فقراء إليه.(14)

2. لو كان له ولد كما يزعمون لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول العابدين له: يقول تعالى عن ذلك: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}(15)

في هذه الآية الكريمة يأمر نبيه أن يقول المشركين: إن كان لله ولد فأنا أول من يعبده، والمعنى بما أنه ليس له ولد، فلذلك أنا أعبده وحده ولا أشرك به شيئاً.(16)

      ويتضح مما سبق أنَّ القرآن قد أبطل شبهة المشركين القائلة بأن الملائكة بنات الله، وقد أقام عليهم الحجة إذ طالبهم بالدليل على قولهم سواء أكان ذلك بالمشاهدة لخلق الملائكة أم كان ذلك عن طريق العلم والإدراك، وقد اتضح أنَّ قولهم هو مجرد افتراء لا يستند على شيء سوى الظن، كما أنَّ العقل السليم المدرك لعظمة الخالق لا يقبل أن يستجيب لقول كهذا، لأنَّ الخالق المبدع تنتفي حاجته إلى الخلق ناهيك أن يتخذ منهم ولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

 

_________________________

(1) سورة النحل: الآية: ٥٧.

(2) الزمخشري، تفسير الكشاف، ص: ٥٧٥.

(3) سورة الصافات: الآية: (١٤٩- ١٥٢).

(4) الطبري، تفسير الطبري، ج: ٦، ص: ٣٢٧.

(5) سورة النجم: الآية: ٢٧.

(6) الزمخشري، تفسير الكشاف، ص: ١٠٦١.

(7) الزخرف: الآية: ١٩.

(8) الطبري، تفسير الطبري، ج: ٦، ص: ٥١٤.

(9) سورة النجم: الآية: (٢٧- ٢٨).

(10) الزمخشري، تفسير الكشاف، ص: ١٠٦١.

(11) سورة الزخرف: الآية: ١٧.

(12) الطبري، تفسير الطبري، ج: ٦، ص: ٥١٢.

(13) سورة الأنعام: الآية: ١٠١.

(14)الزمخشري، تفسير الكشاف، ص:  34.

(15) سورة الزخرف: الآية: ٨١.

(16) الطبري، تفسير الطبري، ج: ٦، ص: ٥٣٧.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

الأدب التفاعليُّ بين مؤيِّديه ومعارضيه