(من موضوعات خطاب القرآن المكي)(2)

 (من موضوعات خطاب القرآن الكريم)(2)

(الدعوة إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقه)

أ. محمد إبراهيم محمد عمر همَّد محمود   


                    

مقدِّمة:

      لما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بإنذار قومه، وبتبليغ دعوة ربَّه- فصدَّ عنه قومه صدوداً وعناداً، وأنكروا وحدانية الله، كما أنكروا أن يكون محمد رسولاً إليهم، وقد حاولوا تبرير ذلك بإثارة بعض الشبهات التي حسبوا أن يطعنوا من خلالها في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الشبهات: إنكارهم أن يكون الرسول بشراً، وإنكارهم أن يكون الرسول إليهم محمد لا غيره، والمطالبة بتحقيق المعجزات أن كان رسولاً فعلاً. وقد تكفَّل القرآن الكريم بالردِّ على تلك الشبهات وتفنيدها.

الشبهة الأولى- إنكارهم أن يكون الرسول بشراً:
1. قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ  وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}(1)هذه الآية الكريمة بينت أن المشركين أبدوا عجبهم واستغرابهم أن يأتيهم رسول بشر مثلهم، ولم يُرسَل إليهم ملك من السماء.(2)
2. قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}(3)
هذه الآية الكريمة تظهر اعتراض المشركين على أن يكون الرسول بشراً مثلهم، فهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لطلب المعاش.(4)
3. قال تعالى: {لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}(5)أي فهلا أنزل معه ملك ينذر الناس ويصدقه على ما يقول.(6)

 وقد رد عليهم القرآن الكريم بالحجج التالية:

. {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُواْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا} :قال تعالى

في هذه الآية الكريمة بيان من الله أن عدم إيمانهم بالرسول ما هو إلا عناد منهم وجهلاً، أن يكون الرسول إليهم بشراً مثل 

غافلين في ذلك عن تأييد الله رسله بالمعجزات.(8)

. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ }(9)

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}(10) 

في هذه الآية الكريمة رد على اعتراض المشركين على أن يكون الرسول بشراً، فبينت أن الرسل السابقين كانوا كذلك يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق لطلب المعاش.(11)ولا شك أن هذا من ضرورات الحياة البشرية، فليس ذلك عيباً يقدح في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا}(12)

في هذه الآية رد من الله على المشركين الذي طالبوا بأن يكون الرسول ملكاً، فكان الرد: لو كان في الأرض ملائكة يمشون في الأرض لبعث إليهم ملكاً مثلهم حتى يروه ويراهم، أما البشر فلا يمكنهم رؤية الملك على هيئته الحقيقية لاختلاف الخلق، لذلك لن  يكون الملك رسولاً إليهم.(13)

قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ  وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ}(14)

هذه الآية الكريمة فيها رد على المشركين الذين طالبوا بأن يكون الرسول إليهم ملكاً، فكان الرد بأنهم لو رأوا الملك على هيئته الحقيقية لكان ذلك هلاكهم ونهاية حياتهم، إما لأنهم عاينوا آية من آيات الله ثم لم يؤمنوا فاستحقوا الهلاك، وإما لزهاق أرواحهم من هول رؤيتهم ملكاً في صورته.(15)

قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}(16)

وفي هذه الآية رد آخر على اعتراض المشركين على بشرية الرسل، والمطالبة برحيل من الملائكة، ففي هذا بيان بأنه لو أرسل إليهم ملكاً ليدعوهم، فلن يروه في صورته، لعجزهم عن ذلك لاختلاف الخلق، ولكن لرأوه في صورة رجل، وهنا سيختلط عليهم الأمر فيقولوا هذا ليس ملكاً، وإنما هو بشر  مثلهم.(17)

الشبهة الثانية- إنكارهم أن يكون الرسول إليهم محمداً لا أحد غيره:

 قال تعالى:{بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}(18)تبين هذه الآية تعجب المشركين واستغرابهم أن يأتيهم رسول منهم، يعرفون عدالته وأمانته، فيكون لهم منذر ومخوفاً لهم من عذاب الله.(19)

. قال تعالى: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا}(20)في هذه الآية الكريمة يخبر الله عن المشركين، وعن اعتراضهم على أن يخص النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة دون منهم أشرف حسباً منه فيهم.(21)

وقد ردَّ القرآن الكريم على هذه الشبهة، وسنتطرق لها عند الحديث عن إنكار المشركين نزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم. 

الشبهة الثالثة- إن كان رسولاً حقاً فليأتهم بالآيات والمعجزات التي تؤيد رسالته:

1. قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ}(22)

2. قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ}(23)يبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين قد طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بآية كما أنزل على الأنبياء السابقين آيات من ربهم.(24)

. قال تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا }(25)

نزلت هذه الآيات لما عجز المشركون عن معارضة القرآن الكريم، فاجتمع رؤساؤهم كعتبة بن ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحارث وأهمية بن خلف وأبي جهل وغيرهم، وقرروا أن يرسلوا إليه ويكلموه ويخاصموه حتى يعذروا فيه.(26)فنقل  لنا القرآن حججهم  ومطالبهم المراد تحقيقها من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى يؤمنوا بنبوته ويصدقوه، وكانت المطالب: أن يخرج لهم عين ماء من الأرض، أو يكون له بستان من نخيل وعنب، وتفجر الأنهار خلال شجر ذلك البستان، أو تتساقط السماء عليهم قطعاً، أو يأتي بالله والملائكة فيرونهم معاينة، أو يكون له بيت من الذهب، أو يصعد في درج إلى السماء، ثم لن يصدقوا رقيه حتى يأتيهم بكتاب يأمرهم بإتباعه والإيمان به.(27)

وكان رد القرآن الكريم على ذلك بالحج التالية:

. قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}(28)

أما ما طالب به المشركون من المعجزات كالأمم السابقة حتى يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فرد عليهم القرآن بأنه لم يأت بالآيات التي طالبوا بها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا، وذلك كما حدث مع ثمود الذين كذبوا بالناقة وعقروها، فكانت سبباً في هلاكهم، وما إرسال الآيات إلا تخويفاً للعباد.(29)

. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ}(30)في هذه الآية الكريمة رد على المشركين الذين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى يؤمنوا به، فجاء الرد عليهم(ألم يكفهم) أن هذا القرآن آية باقية لا تزول في كل مكان وزمان.(31)

قال تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا}(32) في هذه الآية الكريمة رد من الله على المشركين الذين  طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بطلباتهم السابقة حتى يؤمنوا ويتبعوه، فأمر نبيه أن يقول لهم سبحان ربي ما أنا إلا بشر يوحى إلي، ويفعل الله ما يشاء من الأشياء التي طالبتم بها، وليست من مقدور فعل البشر ولا اقترح على ربي إنزال الآيات، ولم يكن الرسل قبله صلى الله عليه وسلم يقترحون على الآيات وكل ما يطلبه قومهم منهم، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثل الرسل السابقين وسبيله سبيلهم في ذلك.(33)

قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا}(34)وهذه الآية رد على المشركين الذين اعترضوا على أكل الرسول الطعام ومشيه في الأسواق، فبينت أن الله قادر على أن يجعل لرسوله خيراً من ذلك،  فيجعل له جنات تجري من تحتها الأنهار، ويجعل له القصور(البيوت المبنية).(35)

          ويتضح مما سبق أن القرآن الكريم قد تكفَّل بالرد على الشبهات التي أثارها المشركون اعتراضاً على نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم، كما اتضح أنَّ تلك الشبهات ما هي إلا محاولات تبريريَّة تعلَّل بها المشركون ليغطوا بها عن عنادهم ورفضهم لقبول الحق البين الظاهر الذي لا يحتاج إلى دليل، ومع ذلك تمَّ الرد عليهم لإقامة الحجة عليهم، ولفضح عنادهم ورفضهم لقبول الحق.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3) (نظريَّة تضافر القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)