خصائص نظريَّة العامل(2)
الخاصِّيَّة
التفسيريَّة
أ. محمَّد إبراهيم محمَّد عمر همَّد محمود
مفهوم التفسير النحويِّ:
التفسير في اللغة مأخوذ من الفَسْرِ وهو: ((البيان. فَسَرَ الشيءَ يفَسِرُه
بالكسر، يَفْسُرُه بالضمِّ، فَسْرَاً وفَسَّرَه: أبانه. والفَسْرُ: كشف المُغَطَّى،
والتَّفْسِيْرُ كشف المراد عن اللفظ المشكل.)).(1) ويقصد الباحث بالتفسير النحويِّ
طرق فكرة العامل النحوي في كشف ما خرج من اللغة عن قوانينها العامَّة أو الخاصَّة،
وبيان طريقة التعامل معه. ومن الظواهر النحويَّة ما خرج عن قاعدة عامَّة من قواعد العامل
النحويِّ، وذلك كما في القاعدة العامَّة التي تجعل الحرف عاملاً إذا كان مُخْتَصَّاً
بالدخول على الأسماء فقط أو الأفعال فقط، وقد خرج عن تلك القاعدة وجود حروف مُخْتصَّة
وغير عاملة، وذلك مثل (أل) التعريف، و(السين) و(سوف) و(قد)، ووجود حروف مشتركة تدخل
على الأسماء والأفعال ومع ذلك يظهر لها عمل في كلٍّ من الاسم والفعل، وذلك مثل (حتى)
والتي يأتي بعدها الاسم مجروراً، ويأتي الفعل بعدها منصوباً، فيتمُّ تفسير ذلك الخروج
عن القاعدة بأمور تجعله مقبولاً، ولا يقدح
في صحّة القاعدة. حيث يفسر النحاة عدم عمل بعض الحروف المختصة نحو (أل) و (قد)
بكونهما أنزلتا منزلة الجزء من الكلمة لذلك لم تعمل فيها، لأنَّ بعض الكلمة لا يعمل
في بعضها الآخَر.(2) كما يتمُّ تفسير عمل الحرف المشترك مثل (حتى) بتفسير خاص مفاده
أنَّ (حتى) تجرُّ الأسماء، وما يحدث من نصب بعدها
في الأفعال، إنَّما هو نصب أنْ مُضْمَرَة.(3) وبذلك تكون (حتى) حرف غير مشترك
وإنِّما هي مختصَّة بالأسماء فتعمل فيها
الجرَّ. وسيتمُّ التطرُّق لبعض الظواهر التي خرجت عن قواعد العامل النحويِّ، وكيفيَّة
تفسير النحاة لها على أساس من العامل النحويِّ، مع توضيح طرق ذلك التفسير.
التفسير
بالحذف:
وهو تفسير يلجأ إليه النحاة عندما تخرج الكلمة عن القاعدة النحويَّة المُفْتَرَض
دخولها فيها في التركيب، فيتمُّ تفسيرها على أساس الحذف. وذلك كما في قاعدة التابع
عندهم إذ لا بدَّ فيه من اتباع المتبوع في الإعراب، ومن التوابع ما خرج عن تلك القاعدة
كالنعت المقطوع للمدح أو الذم أو الترحُّم، وذلك كما في قول الشاعر:
ويَأْوِي إلى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ [المتقارب]
وشُعْثاً
مَراضِيعَ مِثْلِ السَّعالِي(4)
وينقل سيبويه تفسير الخليل لنصب (شُعْثاً)
بقوله: (( كأنَّه قال: وأذكرُهنَّ شعثاً، إلَّا أنَّ هذا فعلٌ لا يُستعمل إظهارُه.
وإنْ شئت جررتَ على الصفة.)).(5) فهنا نصب (شعثًا) بفعل محذوف تقديره(أذكرهن)، مع جواز
الجرِّ على أنَّه صفة، فسبب التفسير بالحذف هنا خروج التابع عن قاعدة تبعيَّة التابع
للمتبوع في الإعراب.
وقد يعتمد النحاة على التفسير بالحذف عندما يكون أحد طرفي الإسناد غير ظاهر
في الكلام، وذلك كما في حذف المبتدأ، وذلك كما في قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}(6) ففي هذه الآية
الكريمة يفترض سيبويه أنَّ المبتدأ فيها محذوف وتقديره (أمري)، كما يفترض أيضاً أنْ
يكون المحذوف هو الخبر وتقديره (أمثل).(7) وهو تفسير ضروريٌّ لتحليل الجملة، إذ لا
تخلو أيُّ جملة من وجود مسند ومسند إليه في تركيبها.
ويُسْتَخْدَم التفسير بالحذف عندما تقع الكلمة منصوبة ولا ناصب لها ظاهر في
الكلام، وهي واقعة بعد حرف( الواو) وما قبلها مرفوع، فلا يصحُّ أن تكون معطوفة على
ما قبلها، ومن ذلك قول الشاعر:
فمالكَ والتلدُّدَ حَوْلَ نَجْدٍ
[الطويل]
وقد غَصَّتْ تِهامةُ بالرِّجالِ(8)
وقد فسرَّ سبيويه نصب (التلدُّدَ) بتقدير
فعل محذوف (تُلابِسُ) أيْ تُلابِسُ التلدُّدَ حول نجد.(9) وهذا التفسير بالحذف مقبول
ههنا لأنَّه يجعل من (التلدُّدَ) واقعة في جملة منفصلة قائمة بذاتها، وهي مفعول به،
فيُدفَعُ بذلك استشكال مخالفة التابع لمتبوعه.
التفسير بالزيادة:
يحكم النحاة بزيادة الكلمة اذا جاءت علي طريقة تكون فيها متعارضة مع القاعدة
النحوية، فيتمُّ تفسير ذلك التعارض بان الكلمة زائدة لغرض معنوي في الكلام . ومن ذلك
انه يتم الحكم بزيادة (من) الجارَّة في بعض التراكيب نحو: ما أتاني مِنْ رجلٍ. وما
رأيْتُ مِنْ أحدٍ. وتفسير سيبويه ذلك بأنَّ (مِنْ) هنا((لو لم تدخل فيه كان الكلامُ
مستقيما ولكنها توكيد بمنزلة مَا، إلَّا أنَّها تجر لأنَّها حرفُ إضافة.)).(10) وهو
بذلك يجعل (مِنْ) زائدة لأنَّ دخولها في الكلام كخروجها منه، إلَّا أنَّها جرَّت الاسم
بعدها لأنَّها حرف جرٍّ، فيكون مجرورها في اللفظ فاعل مرفوع بضمَّة مقدَّرة في المثال
الأوَّل، وهو مجرور في اللفظ ومفعول به في الجملة الثانية.
التفسير بإعادة تركيب الجملة:
يفسر النحاة خروج بعض الكلمات عن مقتضى القاعدة النحويَّة بإعادة تركيب الجملة
التي وردت فيها الكلمة، وذلك بطريقة تجمع بين موافقة الجملة المركبة للجملة المراد
تفسيرها في المعنى، وبين طريقة تركيب جديدة تضمن للكلمة التي خرجت من القاعدة العودة
اليها بطريق آخر، ومن ذلك الخروج المُفَسَّر بإعادة التركيب انجزام الفعل المضارع في
جواب الطلب، وهو انجزام لا يستند على عامل ظاهر في اللفظ، وذلك كما في جواب الأمر نحو:
ائتني آتِكَ. وفي جواب النهي نحو: لا تَفعلْ يَكُنْ خيراً لَك. وفي جواب الاستفهام
نحو: ألا تأتيني أحدِّثْكَ؟ والتمني نحو: ليْته عندنا يحدثْنا. والعرض نحو: ألَا تنزل
تصبْ خيراً. وفي الأمثلة السابقة انجزم الفعل المضارع ولا جازم ظاهراً في الجملة التي
ورد فيها، وقد فسَّر الخليل ذلك بإعادة تركيب هذه الجملة لأنَّها كلها تحتمل معنى الجزاء،
حيث قال: ((إنَّ هذه الأوائل كلُّها فيها معنى إنْ، فلذلك انجزم الجواب، لأنَّه إذا
قال ائتني آتِك فإن معنى كلامه إن يكن منك إتيان آتك...)).(11) وكذلك الأمر بالنسبة
لبقيَّة الأمثلة الأخرى، ويظهر في هذا النصُّ أنَّ الخليل قد قام بإعادة تركيب الجملة–
ائتني آتِكَ– لتصبح بعد التعديل إن يكن منك إتيان اتك. وفي جملة كهذه يكون انجزم الفعل
المضارع أمراً مقبولاً يتناسب مع قاعدة جزم الفعل المضارع في جواب الشرط، وكانت إعادة
التركيب باستدعاء (إنْ)، وهو أمر لا يتنافى مع معنى الجملة قبل إعادة تركيبها. ومن
مواضع التفسير بإعادة التركيب- الجملة التي يكون فيها المبتدأ مصدراً مؤولاً نحو: أن
تأتيني خيرٌ لَك. فتُفَسَّر بإعادة تركيبها لتكون: الإتيانُ خيرٌ لَك.(12) فجملة (أن
تأتيني خيرٌ لَك) تطابق جملة (الإتيانُ خيرٌ لَك) في المعنى وإن كانت مخالفة لها في
اللفظ ، ووجه إعادة التركيب فيها تحويل المصدر المؤوَّل إلى مصدر صريح يلبَّي الحاجة
النحوية لتحليل الجملة، إذ يكون فيها مبتدأً، وخبره (خيرٌ) وهذا ما لا يتوفَّر في التحليل
النحويِّ للجملة الأولى.
التفسير بالضرورة الشعريَّة:
يجوز للشعراء التصرُّف في الكلام والخروج عن قواعد اللغة العربيَّة في بعض المواضع
مراعاة لمتطلَّبات الوزن والقافية وهو ما يعرف بالضرورة الشعريَّة، وهى عند بعض النحاة
مالا بدَّ للشاعر من استخدامه من تركيب في ذلك الموضع، وعند بعضهم هي ما يقع من تركيب
في الشعر ولا يكون في النثر.(13) والرأيان لا تناقض بينهما وكلٌّ منهما يكمِّل الآخر
باعتبار أنَّ الضرورة هي ما يلجأ إليه الشاعر من خروج عن قواعد اللغة لأنَّه ليس من
سبيل غيرها لإقامة الوزن أو القافية.
ومثل هذا الخروج عن القاعدة هو ما
يُفسَّر بالضرورة الشعريَّة، وقد تكون هذه الضرورة الشعريَّة متمثلة في إهدار العلامة
الإعرابية ، وذلك كما في قول الفرزدق:
وعضُّ زَمَانٍ يا ابْنَ مَرْوانَ لَمْ
يَدَعْ [الطويل]
مِن المَالِ
إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ(14)
حيث أهدر الفرزدق العلامة الإعرابية (الفتحة)
ورفع (مُجَلَّفُ) لإقامة القافية، وكان من حقِّه النصب لأنَّه معطوف على منصوب، وهو
الأمر الذي عابه عليه ابن أبي إسحاق الحضرميّ.(15) وقد تكون الضرورة الشعريَّة في صرف
الممنوع من الصرف، وذلك كما في قول العجَّاج:
قَواطِناً مكَّةَ
من وُرْقِ الحَمِي(16)
فقوله:( قواطناً) ضرورة شعريَّة لأنَّه
صرف الممنوع من الصرف، فــــــ(قَواطِن) على وزن (فَواعِل) وهو صيغة من صيغ منتهى الجموع،
وقد صُرِفت لضرورة شعريَّة.(17)
قد تكون الضرورة الشعريَّة بمنع المصروف
عن الصرف، وذلك كما في قول الشاعر:
قَالَتْ أُمَيْمَةُ مَا لِثابِتَ شَاخِصاً [الكامل]
عَارِي الأَشاجِعِ نَاحِلاً
كَالْمُنْصُلِ(18)
في هذا البيت مُنِع ( ثابت) من الصرف،
وكان من حقِّه أن ينوَّن، ولكنه مُنِع التنوين من
أجل إقامة الوزن ، وهو ضرورة شعريَّة.(19) وإذا وجد النحاة مثل هذا الخروج عن
قواعد اللغة في الشعر خاصَّة لم يكن موضع احتجاج عندهم في إثبات القاعدة النحويَّة،
ويُردَّ ذلك على من استخدمه. ويرى الباحث أنَّ التفسير بالضرورة الشعريَّة، هو تفسير
لخروج بعض الكلام الموثوق بفصاحته عن مقتضى القواعد
المُسْتَنْبَطَة من كلام عربيٍّ فصيح موثوق
من فصاحته وقد حدث تعارض بينهما، فجُعِل ما جاء في الشعر والنثر هو الأصل التي بُنِيَتْ
عليه القواعد النحويَّة، وما خرج عن ذلك هو ضرورة شعريَّة لجأ إليها الشاعر، فلا يكون
موضعاً لإثبات قاعدة نحويَّة أو دحضها إذا تعارض معها.
التفسير بالشذوذ:
يُقْصَد بالشذوذ خروج بعض الكلمات عما انتظم فيه غيرها في مثل موضعها.(20) وذلك
كأن ـتأتي الكلمة مرفوعة في موضع يقتضي فيه التركيب أنْ تأتي منصوبة، وذلك كما في قول
امرئ القيس:
فَأقْبَلْتُ زَحْفاً علَى الرُّكْبَتَيْنِ [المتقارب] فثَوْبٌ لبست وثَوْبٌ أَجُرْ(21)
ووجه الشذوذ في هذا البيت رفع (ثَوْبٌ)
على أنه مبتدأ في الجملتين (فثَوْبٌ لبست) و(ثَوْبٌ أَجُرْ). وذلك دون إظهار الضمير
في الخبر ( لبست) و (أَجُرُّ)، لأنَّ الخبر جملة، والجملة الواقعة خبراً تحتاج إلى
رابط يربطها بالمبتدأ، لذلك قال سيبويه: ((وهذا ضعيفٌ والوجهُ الأكثرُ الأعرفُ النصبُ.)).(22)
وذلك لأنَّ النصب يخرجها من الشذوذ ويدخلها في الاطراد فتكون كلمة (ثوب) مفعول به منصوب
مقدَّم. وكذلك يحكم بالشذوذ على الجرِّ بعد حرف يأتي الاسم بعده منصوباً كما في قول
الشاعر:
فَقُلْتْ ادْعُ أُخرَى وارْفَع الصوْتَ
جَهْرةً [الطويل]
لعلَّ أبِي المِغْوارِ مْنكَ قرِيبُ(23)
ووجه الشذوذ فيه جرَّ الاسم بلعلَّ، وهي
حرف نصب، ومثلها الجرُّ بــــ(متى) و(كي)، حتى أنَّ بعض النحاة لم يذكروا هذه الحروف
من ضمن حروف الجرِّ.(24)
وقد تأتي الكلمة مستخدمة في كلام فصيح – استخداماً غير الذي يأتي فيه مثلها
من الكلام الفصيح الفصيح المطَّرد، فيحكم على هذا الاستخدام في مثل هذا الموضع بالشذوذ،
ومنه مجيء خبر (عسى) اسماً مفرداً منصوباً، والقياس والاستعمال فيه أنْ يأتي فعلاً
مضارعاً مقترناً بـــ(أنْ)، ومن الشذوذ في استخدامه اسماً مفرداً ما جاء في المثل:
((عَسَى الغُوَيْرُ أَبْؤُساً)).(25) لذلك حكم عليه بالشذوذ، فلا يصحُّ الاحتجاج به.(26)
التفسير بالتوهُّم:
ويقصد بالتوهُّم خروج الكلمة ـفي الجملة عن القاعدة النحويَّة؛ نتيجة لحملها
على حالة إعرابيَّة مفترضة يأتي فيها ما قبلها من الكلام، وهو الذي طلق عليه سيبويه
اسم الغلط حين قال: (( واعلم أنَّ ناساً من العرب يَغلَطون فيقولون: إنَّهم أجمعون
ذاهبون، وإنَّك وزيد ذاهبان؛ وذاك أنَّ معناه معنى الابتداء)).(27) ووجه الغلط أو التوهُّم
في هاتين الجملتين مجيء التوكيد ( أجمون) مرفوعاً على الرغم من أنَّه توكيد لضمير في
موضع نصب اسم (إنَّ) في الجملة الأولى، وعطف اسم مرفوع على اسم (إنَّ) وحقه النصب لأنَّه
معطوف على منصوب في الجملة الثانية، وسبب هذا الغلط وفقاً لكلام سيبويه هو توهُّم أنَّ
الاسم قبلها مرفوع ، لأنَّ هذا الموضع – موضع اسم (إنَّ) – هو الذي يأتي فيه المبتدأ
مرفوعاً في الجملة قبل دخولها. ومن الجرِّ بالتوهُّم جرُّ الاسم المعطوف على خبر (ليس)،
وذلك عندما يأتي خبرها غير مقترن بحرف الجرِّ
الزائد(الباء)، وذلك كما في قول الشاعر:
مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحيِنَ
عَشيرةً [الطويل]
ولا ناعبٍ إلَّا ببَينٍ غُرابُها(28)
ووجه التوهُّم في هذا البيت مجيء المعطوف
على خبر ليس (ناعبا) مجروراً على الرغم من عدم جرِّ هذا الخبر بحرف الجرِّ، ولكنه جاء
مجروراً توهماً على أنَّ الخبر مسبوق بحرف الجرِّ الزائد(الباء)، إذ إنَّ خبر(ليس)
يجيء مجروراً بـــــــ(الباء) في هذا الموضع.(29)
ويتضح مما سبق أنَّ التفسير بالتوهُّم هو تفسير لمجيء كلام فصيح مخالفاً لمثله
في الفصاحة إلَّا أنَّه يختلف عنه في الاطراد، فضلا عن أنَّ سبب مخالفته ترجع لمراعاة تركيب مُفْتَرض يقع كثيراً في كلامهم،
فيحمل عليه هذا الكلام على الرغم من عدم مجيئه فيه في تلك الحالة.
ما يُرَاعَى في تفسير الخروج عن القاعدة:
لمن يكن النحاة يفسِّرون ما خرج عن قواعدهم
النحويَّة بشيء مما سبق ذكره إلَّا وهم يراعون فيه أنْ يكون مطابقاً للمُفَسَّر من
حيث التركيب أو المعني أو السياق، فعندما يفسِّرون الخروج بالحذف فأنهم يراعون في تقدير المحذوف أنْ يكون
ملائماً من حيث التركيب مع الجملة المراد تفسيرها، وكذلك من حيث المعنى، وذلك بدليل
من السياق الذي وردت فيه الجملة. ويمكن تفصيل ذلك كما يلي:
أولاً- مراعاة التركيب:
ذلك لأنَّ مجيء الكلمة في حالة إعرابيَّة معينة كالرفع أو النصب مثلاً يتطلَّب وجودها
في تركيب محدَّد لا يتمُّ رفعها أو نصبها إلَّا فيه، ومنه هاتان الجملتان: مُصَاحَبٌ
مُعَانٌ. ومُصَاحَباً مُعَانًا. وعلى الرغم
من اشتراك هاتين الجملتين في استخدام الكلمتين، فإنَّه لا يُمكن تفسيرهما على أنَّهما
جملتان من دون تقدير الجزء المحذوف منهما، وفي الجملة الأولى المحذوف هو المبتدأ وتقدير
(أَنْتَ)، والمحذوف في الجملة الثانية هو الفعل (اذْهَبْ) والتقدير: اذْهَبْ مُصَاحَباً
مُعَانًا. وهذا التقدير في الجملتين كان على أساس من مراعاة التركيب باعتبار أنَّ الجملة
الأولى تتطلَّب وجود مبتدأ حتى يكتمل تركيبها، فيقدَّر فيها الضمير (أَنْتَ)، و تتطلَّب
الثانية وجود فعل ليكتمل تركيبها فيقدَّر لها فعلامثل(اذْهَبْ) يكون هو الناصب لـــــ(مصاحباً).
ويقول سيبويه في تفسير مثل هذه التراكيب: ((فإذا ارتفعت هذه الأشياء فالذي في نفسك
ما أظهرت وإذا نصبت في نفسك غير ما أظهرت، وهو الفعل والذي أظهرت الاسم.)).(30) ووفقاً
لهذا النصِّ يتمُّ تقدير مبتدأ في حالة الرفع لهذه الجملة، وتقدير الفعل في حالة النصب.
وكما كان التفسير بالحذف على أساس من التركيب قد يكون التفسير بالزيادة على أساس منه
أيضاً، وذلك كما في الحكم بزيادة (مِنْ) في قول الشاعر:
فإنْ لم تَجِدْ
مِنْ دونِ عَدْنانَ وَالداً [الطويل]
ودونَ مَعَدٍّ فَلْتَزَعْكَ العَوَاذِلُ(31)
وقد حُكِم بزيادة (مِنْ) التي قبل
(دون) الأولى بالزيادة، لأنَّ الشاعر عطف (دون) الثانية بالنصب على المحلِّ من الأولى،
باعتبار أنَّ الأولى مجرورة لفظاً منصوبة محلَّاً. وهذه الزيادة تمَّ التعرف عليها
بواسطة علاقة تركيبيَّه هي العطف على المحلِّ.(32)
ثانياً- مراعاة تركيب مماثل:
وقد يسمح التقدير– عند التفسير بالحذف– تقدير اسم أو فعل على السواء، فيختار النحاة
تقديرا معينا منهما كالفعل مثلاً، وهم يستندون في ذلك على مراعاة تركيب مماثل ورد فيه
التركيب كذلك الذى قُدِّرَ فيه الفعل، وذلك كما في قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ}(33) ففي هذه الآية
الكريمة يقدِّر النحاة في { لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ}(34) المحذوف خبراً فيكون التقدير (اللهُ خَلَقَهُمْ)
وجملة (خَلَقَهُمْ) في محلِّ رفع خبر للمبتدأ لفظ الجلالة (اللهُ). ويقدِّرون فعلاً
فيكون التقدير (خَلَقَهُمْ اللهُ) فيكون لفظ الجلالة فاعل. ويختار بعض النحاة تركيب(خَلَقَهُمْ
اللهُ)لأنَّه يماثل ما رود في آيات أـخرى منها ذلك قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}(35) ووجه المشابهة
مجيء الفعل في تقدير النحاة (خَلَقَهُمْ اللهُ) في الآية الأولى مشابهاً لما جاء في
الآية الثانية{خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}(36) ويتضح من ذلك أنَّ اختيار تقدير(خلقهم الله) كان مراعاة لمماثلة تركيب فصيح ورد فيه مُظْهَراً ما تمَّ تقديره هنا.(37)
ثالثاً- مراعاة المعنى مع التركيب:
وذلك عندما يكون التركيب يقتضي تقدير كلمة محدَّدة كالفعل مثلاً، فإنَّه لا يُقدّر
أيُّ فعل، وإنَّما يقدَّر فعلاً مناسباً في المعنى والتركيب مع تركيب ومعنى الجملة،
وذلك كما في تقدير النحاة في جملة: زيداً ضَرَبْتُ
أخاه. فلا يقدَّر الفعل (ضَرَبْتُ) للمفعول
(زيداً) لأنَّه لا يتناسب مع المعنى المراد من الجملة، وإنْ كان مناسباً من حيث التركيب
باعتباره فعلاً مُتَعدِّياً، وعدم تناسبه في المعنى يرجع إلى كون المراد من الجملة
هو الإعلام بضربه أخا زيدٍ وليس بضرب زيد، لذلك يتم تقدير الفعل (أهنت) فيكون التقدير:
أهنْتُ زيداً ضربْتُ أخاه.(38) لأنَّ ضرب أخي زيد يتناسب مع هذا التقدير باعتبار أنَّ
ضرب أخيه إهانة له. ومن مراعاة التركيب مع المعنى تفسير النحاة لزيادة (كان) في الآية
الكريمة:{ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا }(39) فمن حيث التركيب حكم النحاة بزيادة (كان)لأنَّ دخولها كخروجها ولكنها
زائدة للتوكيد، ومن حيث المعنى لو لم تكن (كان) زائدة فإنَّ المعنى يكون: أنَّه كان
في ماضيه صبياً في مهده، وليس في ذلك معجزة للنبي عيسى عليه السلام ، لأنَّ ذلك مما
يشترك فيه الناس سواء.(40) ويتضح في هذا التفسير أنَّ النحاة قد راعوا فيه التراكيب
مع المعنى المراد من الجملة.
رابعاً- مراعاة التركيب والمعنى والسياق:
وذلك عند تحليل بعض الجمل التي تبدو ناقصة التركيب في اللفظ، فيتمُّ إكمال تركيبها
مع مراعاة المعنى بدليل من السياق الذي وردت فيه الجملة، ومن ذلك تحليلهم لجملة: مرحباً
وأهلاً. وقد فسَّره الخليل بقوله: ((فإنَّما رأيتَ رجلاً قاصداً إلى مكانٍ أو طالباً
أمراً فقلتَ: مرحباً وأهلاً، أي أدركتَ ذلك وأصبتَ.)).(41) ففي هذا النصِّ يحلِّل الخليل:
(مرحباً وأهلاً) بتقدير فعل مثل أدركتَ وأصبتَ ليكون مبرراً لنصب الاسمين (مرحباً وأهلاً)
فيكتمل التركيب، وهو متناسب مع المعنى المراد الإخبار عنه، ومُسْتَدلٌّ عليه بدليل
من السياق وهو سياق الحال التي عليها من يقال له ذلك، أي هو في حالة تلبُّس بقصد مكان
أو طلبه. ومنه أيضاً تقدير النحاة جواب الشرط عندما يكون محذوفاً من الجملة، وذلك كما
في الآية الكريمة: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}(42)ويقدِّر النحاة جواباً هو(لارتدعتم)،(43) وهو متناسب في المعني
مع جملة الشرط ، بدليل سياق النصِّ{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ }(44)
يتضح ممَّا سبق ذكره أنَّ فكرة العامل النحويِّ
تعترف بوجود ما يخرج عن قوانينها الإعماليَّة، وهي تلتمس لذلك الخروج عن القواعد مخرجاً
لا يجعله سبباً لنقض تلك القواعد النحويَّة، والتي استنبطت بالأساس من كلام عربيٍّ
فصيح موثوق بفصاحته. لذلك تُفسِّر ما خرج عن تلك القواعد بالحذف، أو الزيادة، أو إعادة
تركيب الجملة، أو الضرورة الشعريَّة، أو الشذوذ، أو التوهُّم. وهي إذ تُفسِّره بشيء
من ذلك فإنَّها تعتمد في تفسيرها على أدلَّة من التركيب، أو المعنى، أو السياق الذي
وردت فيه الكلمة الخارجة عن تلك القواعد.
___________________________________
(1) ابن منظور، معجم لسان العرب، جـــ:
4، مادة (فسر)
(2) ابن الخشَّاب، المُرْتَجَل، ص:
(226- 228).
(3) سيبويه، الكتاب، جـــ: 3، ص: 7.
(4) البيت لأميَّة بن أبي عائذ، انظر:
ديوان الهذليين، الدار القوميَّة للطباعة والنشر، القاهرة،(ط. د)، 1965م ، جــــ:
2، ص: 184، وفيه برواية ( له) بدلاً من(ويأوي) و(عاطلات الصدر) بدلاً من(عطل) و(عوج)
بدلاً من (شعثاً). وبهذه الرواية لا وجه للاستشهاد بها هنا. والعُطَّل: جمع عاطل وهي
المرأة التي لا شيء لها. والشُعْث: جمع شعثاء: وهي التي تلبَّد شعرها وتغيَّر لقلَّة
تعهده بالدهن. والمراضيع: جمع مِرضاع، وهي الكثيرة الإرضاع. والسعالي: جمع سعلاة، وهي
الغول، وتشبَّه بها المرأة إذا كانت قبيحة الوجه سيئة الخلق.
(5) سيبويه، الكتاب، جـــ: 2، ص: 66.
(6) سورة محمد: الآية: 21.
(7) سيبويه، الكتاب، جـ : 1، ص: 141.
(8) مسكين الدارميُّ، ربيعة بن عامر، ديوانه،
تــــــ: عبدالله الجبوري وخليل إبراهيم العقبة، مطبعة دار البصيري، بغداد، ط: 1،1970م،
ص: 66. وجاء أيضاً بديوان ( أتوعدني وأنت بذات عرق) بدلاً من(فمالك والتلدد حول نجد)،
فلا تكون هذه الرواية هنا موطناً لشاهد سيبويه. التلدد: الذهاب والمجيء حيرة. غصَّت:
امتلأت، والأصل في الغصص الاختناق بالطعام. ويقول مالك تقيم بنجد على جدبها وتترك تهامة
وقد امتلأت بالرجال لخصبها.
(9) سيبويه، الكتاب، جـ : 1، ص : (
308 – 309).
(10) المصدر السابق، جـ: 4 ، ص : 225.
(11) المصدر نفسه، جـ: 3، ص: 94.
(12) نفسه، جـــ: 3، ص: 153.
(13) السيوطيُّ الأشباه والنظائر، جــــ:
،1 ص: 484.
(14) الفرزدق، ديوانه، ص: 386. وفيه برواية
(مُجرَّفُ) بدلاً من(مُجَلَّفُ). واللفظان متقاربان في المعنى، إذ المجرَّف: ما بقي
منه بقيَّة. والمُجلَّف: الذي أُخِذَ من جوانبه. والمُسْحت: المال المُتلف الذي دخله
الغشُّ والحرام.
(15) الأنباريُّ، نزهة الألبَّاء في طبقات
الأدباء، ص: 28.
(16) العجَّاج، ديوانه، ص: 282. وفي الديوان
برواية (أوالفاً) بدلاً من (قواطناً)، وفي هذه الرواية وجه الاستشهاد قائم أيضاً. قواطن:
جمع قاطنة وهي المقيمة. والورق: جمع ورقاء وهي السوداء يخالط سوادها بياض. والحمِي:
أراد الحمام فحذف الميم، وقلب الألف ياء.
(17) الأنباريّ، الإنصاف في مسائل الخلاف،
جــــ: 2، ص: 423.
(18) البيت مجهول قائله، وهو من شواهد
الإنصاف. انظر: المرجع السابق، جــــ: 1، ص: 407. شاخصاً: من شخص بصره، إذا فتح عينيه
ولم يطرف، عاري الأشاجع: هزيل، ناحلاً: متغيراً لونه، المنصل: السيف.
(19) المرجع نفسه، جـ :1، ص: 407.
(20) السيوطي، الاقتراح في أصول النحو
، ص: 49.
(21) امرؤ القيس، ديوانه، ص: 70. وفيه
برواية (فثوباً) بدلاً من(فثوبٌ) ولا وجه للاستشهاد بهذه الرواية.
(22) سيبويه ، الكتاب ، جـ :1، ص :
86.
(23) البيت لكعب بن سعد الغنويِّ. انظر:
الأصمعيّ، عبد الملك بن قريب، الأصمعيَّات، تــــ: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون،
(ن. د)، بيروت، ط: 5، (ت. د)، ص: 96. وفيه برواية (دعوةً) بدلاً من (جهرةً) و(أبا المغوار)
بدلاً من (أبي المغوار) ولا وجه للاستشهاد بهذه الرواية.
(24) الأشمونيُّ، شرح الأشمونيِّ على ألفيَّة
ابن مالك، جــــ: 3، ص: 182.
(25) الميدانيُّ، مجمع الامثال، جــــ:
1، ص: 404.
(26) الأنباريُّ، الإنصاف في مسائل الخلاف،
جـــ: 1، ص: 132.
(27) سيبويه، الكتاب، جـ : 2، ص :
155.
(28) البيت للأخوص الرياحي وهو من شواهد
سيبويه. انظر: سيبويه، الكتاب، جــــ: 1، ص: 165. ونُسِبَ أيضاً للفرزدق. انظر: سيبويه،
الكتاب، جــــ: 3، ص: 29. ناعب: ناعق، والنعيق صوت الغراب. والبين: الفراق. ويقصد أنَّهم
قليلو الصلاح والخير، ولا يأتي منهم إلَّا الشؤم كالغراب الذي لا ينعق إلَّا بالفراق.
(29) سيبويه، الكتاب، جـــــ: 3، ص:
101.
(30) سيبويه، الكتاب، جـــ: ، ص:
(31) ابن ربيعة، لبيد، ديوانه، دار صادر،
بيروت، ط: 1، ( ت. د)، ص: 131. وفيه برواية (باقياً) بدلاً من (والداً). تَزَعك: تكفُّك.
والعواذل: حوادث الدهر ونوائبه. وأصل العذل: اللوم.
(32) سيبويه، الكتاب، جـ: 1، ص: 68.
(32) سيبويه، الكتاب، جـ: 1، ص: 68.
(33) سورة الزخرف: الآية: 87.
(34) سورة الزخرف: الآية: 87.
(35) سورة الزخرف: الآية: 9.
(36) سورة الزخرف: الآية: 9.
(37) ابن هشام، مغني اللبيب، جـ 2 ، ص:
685.
(38) سيبويه، الكتاب، جـ : 1، ص : 83.
(39) سورة مريم: الآية: 29.
(40) ابن يعيش، شرح المُفَصَّل، جـــ:
4، ص: 347.
(41) سيبويه، الكتاب، جـ: 1، ص: 295.
(42) سورة التكاثر: الآية: 5.
(43) ابن هشام، مغني اللبيب، جـ 2 ، ص:
721.
(44) سورة التكاثر: الآية: 1.
تعليقات
إرسال تعليق