خصائص نظريَّة العامل(1)


           خصائص نظريَّة العامل(1)
               الخاصِّيَّة التعليميَّة
            أ. محمَّد إبراهيم محمَّد عمر همَّد محمود

تعليميَّة فكرة العامل:
     ارتبطت فكرة العامل النحويِّ بالغرض التعليميِّ الذي وُضِعَ النحو من أجله، ألَا وهو كيفيَّة نطق أواخر الكلمات بصورة صحيحة في التركيب، لذلك احتوت الفكرة على كثير من المصطلحات والعبارات المجازيَّة التي تهدف إلى توضيح ذلك، ومنه هذا النصُّ لابن جنيّ، والذي يقول فيه: ((وإنما قال النحويون عامل لفظي وعامل معنوي ليروك أنَّ بعض العمل يأتي مسبباً عن لفظ يصحبه كمررْتُ بِزيدٍ، وليت عمراً قائمٌ، وبعضه يأتي  عارياً من مصاحبة لفظ يتعلَّق به، كرفع المبتدأ بالابتداء...)).(1) وهنا يبيِّن ابن جنيّ الفرق بين العامل اللفظيِّ  و العامل المعنويِّ، اذ يكون الأوَّل ملفوظاً في الجملة مثل (الباء) و (ليت)، بينما يكون الآخر غير ملفوظ وإنَّما يكون مستنبطاً بالعقل. وهذا النصُّ ذو طابع تعليميّ والمخاطب به طالب علم النحو وليس النحاة، اذ لا يُعقل ان يكون شرح ابن جنيّ هذا موجَّها لنحاة أمثاله. ويكون هذا الطابع التعليميُّ لفكرة العامل أكثر وضوحاً في بعض الكتب النحويَّة، وذلك مثل كتاب(المُقْتَضَب) للمبرِّد، ومنه هذا النصُّ الذي يوضح فيه سبب رفع الفاعل ونصب المفعول، حيث يقول: ((وإنما كان الفاعل رفعاً والمفعول به نصباً ليعرف الفاعل من المفعول به ...، فإن قال قائل: أنت إذا قلت: قامَ زيدٌ، فليس ههنا مفعول يجب أن تفصل بينه وبين هذا الفاعل. فإن الجواب في ذلك، أن يقال له: لما وجب أن يكون الفاعل رفعاً في الموضع الذي ليس فيه للعلة التي ذكرنا ،علمت أن المرفوع هو ذلك الفاعل الذي عهدته مرفوعاً وحده وأن المفعول الذي لم تعهده مرفوعا.)).(2)
وهذا النصُّ ذو طابع تعليميٍّ واضح فيه تلقين المبرِّدُ للمتعلم فكرة العمل النحويَّ على طريقة (الفَنْقَلة) وهي طريقة تعليميَّة ذات طابع جدليٍّ، تقوم على طريقة السؤال والجواب، فإنْ قال كذا، فالجواب كذا. ووضح المبرِّد للمتعلِّم من خلالها أنَّ علِّه رفع الفاعل ونصب المفعول هو الفرق بينهما، حتى ولو لم يكن هنالك مفعولاً في الجملة ليتمَّ الفرق بينه وبين الفاعل عن طريق الرفع والنصب. وقد لاحظ المحدثون هذا الطابع التعليميَّ لفكرة العامل، وقد ثمَّن دوره المؤيدون للفكرة، واعتبرها بعضهم بمثابة المفتاح لفهم النحو العربيِّ والإلمام بموضوعاته وقضاياه.(3) وسيتم التطرُّق لبعض الجوانب التي توضَّح الطابع التعليميَّ للفكرة.
ربط تغيرات أواخر الكلمات بالعامل:
     درج النحاة على ربط التغيُّرات التي تحدث لأواخر الكلمات بالعوامل الداخلة عليها في التركيب، ويظهر هذا جليَّاً منذ ظهور أوَّل كتاب نحويٍّ متكامل يحلل التراكيب على أساس من العامل النحويِّ، ألَا وهو كتاب سيبويه، ويظهر ذلك مع الصفحات الأولى من كتابه  حيث فرَّق على أساسه بين علامات الإعراب والبناء، وجعل الأولى هي التي تحدث نتيجة لدخول العامل على الكلمة. (4) ثمَّ صار الأمر من بعده تقليداً نحويَّاً عند النحاة، وعلى أساسه ظهرت تعريفات الإعراب مثل هذا التعريف: ((هو أثر ظاهر أو مقدر يجلبه العامل في آخر الكلمة.)).(5) هذا على الرغم من أنَّ النحاة كانوا يدركون أنَّ الغرض من الإعراب  هو التفريق بين المعاني النحويَّة من فاعليَّة ومفعوليَّة وإضافة، ومع ذلك لم يربطوا تلك التغيُّرات بهذه المعاني، لأنَّها أمور قد تغمض على بعض دراسي النحو، لذلك ربطوا التغيُّرات بأشياء ظاهرة ويسهل التعرُّف عليها ألا وهي العوامل النحويَّة.(6) وفي هذا تتفوق فكرة العامل على بقيَّة النظريَّات المقترحة بدلاً منها، والتي تربط تغيُّر  أواخر الكلمات بالمعاني النحويَّة، وذلك كما هو الأمر عند كلٍّ من إبراهيم مصطفى و مهديٍّ المخزوميِّ، إذ يجعلان من الرفع علامة للإسناد، ومن الجرِّ علامة للإضافة، أمَّا النصب فليس بعلامة لمعنىً نحويٍّ عند إبراهيم مصطفى،(7) بينما هي علامة لخروج الكلمة عن نطاقي الإسناد والإضافة عند مهديٍّ المخزوميِّ .(8) أمَّا نظرية تمَّام حسَّان فتربط التغيرات بقرائن لفظيَّة ومعنويَّة، وعلى أساسها يتمُّ تحليل التركيب النحوية.(9) ويرى الباحث  أنَّ فكرة العامل هي الأنسب لتفسير وتحليل التراكيب النحوية، نتيجة لما يتوفر فيها من ريط التغيُّرات بأشياء ظاهرة يسهل التعرُّف عليها، وهذا ما لا يتوفر في النظريات المقترحة بدلاً من العامل النحويِّ
تجميع العوامل المشابهة في العمل:
    تقوم فكرة العامل على الجمع بين العوامل ذات العمل المتشابه، ذلك بغض النظر عن الاختلافات التي تكون بينها في المعنى، كالنفي والإثبات والتوكيد وغير ذلك من المعاني. فمن ذلك جمع عوامل نصب الفعل المضارع لتكوِّن باباً نحويَّاً، كذلك حروف الجزم والتي تُجْمَع معاً لتكون باباً نحويَّاً آخر،(10) وكذلك الأمر بالنسبة  لبقيَّة العوامل الأخرى من عوامل الأسماء والافعال. وهذا الجمع بين العوامل يخدم الغرض التعليميَّ للفكرة الذي أُنْشِئ علم النحو من أجله، إذ إنَّ تجميع هذه العوامل في أبواب نحويَّة يساعد المتعلم على حفظها و يسهِّل عليه التعرُّف عليها دون إهدار الوقت في البحث عنها لو جاءت مشتتة في أبواب مختلفة، وذلك كما في نظريَّة مهديٍّ المخزوميِّ فمثلاً (إنَّ) تُذْكَر عنده في باب التوكيد، بينما تأتي (أنَّ) في باب أدوات الوصل.(11) ذلك على الرغم من أنَّ كلاً من الأداتين تشتركان في العمل، ألا وهو نصب الاسم ( المبتدأ) على أنَّه اسمها، ورفع الخبر على أنَّه خبرها. أمَّا نظريَّة تمَّام حسَّان فتُجْمَع الأبواب فيها على أساس القرائن، فقرينة معنويَّة مثل المخالفة مثلاً فإنها تجمع تحتها أشياء من أبواب نحويَّة مختلفة مثل المنصوب على الاختصاص، والمضارع المنصوب بعد (واو) المعيَّة، والمنصوب في باب التحذير، ومنصوب الصفة المشبَّهة باسم الفاعل.(12) ويتضح من هذا  أنَّ فكرة العامل تتفوق على النظريات البديلة في هذا الجانب التعليميِّ، حيث تجمع العوامل في أبواب نحويَّة تخدم الغرض التعليمي الذي وضع من أجله علم النحو، وهذا ما لا يتوفَّر في النظريات البديلة منها.
تفاوت الدرجات بين العوامل:
     لاحظ النحاة أنَّ العوامل ليست كلَّها سواء في العمل وإنْ كانت تشترك جميعها في إنها تعمل، فبعض العوامل يعمل مُضْمَراً كما يعمل مُظْهَراً، وذلك مثل الفعل وحرف الجر (رُبَّ)، حيث يعملان سواء كانا ظاهرَيْنِ أم مُضْمَرَيْنِ،(13) وهذا ما لا يتوفَّر لعوامل أخرى لا تعمل إلا إذا كانت مُظْهَرة، لأجل ذلك وضع النحاة درجات للعوامل، فجعلوا الفعل أقوى العوامل لأنَّه يعمل في كل تركيب سواء أكان ظاهراً أم  مُضْمَراً، متقدِّماً كان عن معموله أم متأخراً. كما جعلوا العوامل اللفظيَّة أقوى من العوامل المعنويَّة، إذ يعتبرون العامل اللفظيَّ هو الاصل((لأنَّه الأقوى إذ كان محسوساً لأنَّه يُدرك بالسمع، والمعنويّ دونه لأنَّه معقول مستنبط لا محسوس .)).(14) وبما أنَّ الفعل أقوى العوامل عندهم، فإنَّ بقيَّة العوامل تأتي بعده في القوَّة، أيْ هي أضعف منه في العمل، ويلي الحرفُ الفعلَ في القوَّة لأنَّه يعمل بالاختصاص، ويلي الحرفَ الاسمُ العامل، ويقدَّم الاسم العامل بمشابهة الفعل على الاسم العامل بمشابهة الحرف، كما يقدِّمون اسم الفاعل على اسم المفعول، والذي يتقدَّم على الصفة المُشبَّهة باسم الفاعل، والتي تتقدَّم بدورها على المصدر، والذي يتقدَّم على اسم الفعل.(15) وقد ذكر أحد الباحثين أنَّ علم اللغة الحديث يرى في قوَّة عمل العمل تفسيراً مقبولاً، لأنَّه حدث، والحدث ترتبط به مجموعة من المتعلِّقات  كالمُحْدِث ، والمُحْدَث، والغاية منه، وهيئة الحدث، وزمانه ومكانه، فيكون لتلك المتعلِّقات كالمحور الذي تدور حوله.(16) وهذا التصنيف للعامل من حيث القوَّة والضعف يمثل جانباٍ تعليميَّاً في فكرة العامل النحويِّ، اذ يُستخدم للتفسير في بعض الأوجه التركيبيَّة التي تعمل فيها عوامل محدَّدة، ولا تعمل فيها عوامل أخرى.
تقديم بعض عوامل الباب على غيرها:  
     يقدِّم النحاة بعض العوامل على غيرها في الباب النحويِّ، ويطلقون عليها اسم (الأمَّ) وهو مصطلح يُقْصَد به أنَّ هذه الكلمة  أصل لغيرها من الكلمات المشابهة لها ، وذلك نتيجة لما تختصُّ به من خصائص تميِّزها عن غيرها.(17) ويتأكَّد ذلك في العوامل باعتبار أنَّ بعضها يتميَّز عن بعضها الآخر في كيفيَّة العمل، ومن العوامل التي استحقَّت لقب الأم في بابها (إنْ) الشرطيَّة، حيث يقول سيبويه عنها: ((وزعم الخليل أنَّ إنْ هي أمُّ حروف الجزاء.)).(18) وهذا نصٌّ من الخليل على تسمية (إنْ) الشرطية بأم الباب، وذلك لما يتوفَّر فيها من خصائص لا تتوفَّر في غيرها من حروف الجزاء ومن ذلك أصالتها وثباتها، حيث تنصرف بقيَّة أدوات الشرط الأخرى إلى معان أخرى سوى الجزاء كالتمنِّي، والاستفهام، والنهي وغير ذلك من المعاني،(19) بينما تظلُّ (إنْ) ثابتة في معناها ألا وهو الجزاء كثباتها في عملها وهو جزم فعلي الشرط الجواب أو ما يحلُّ محلَّهما.    
     وتستحق (أنْ) لقب أمِّ الباب النحويِّ في نواصب الفعل المضارع، وذلك لما تختص به خواص تميِّزها عن بقيَّة عوامل الباب، حيث أنَّها تعمل مُضْمَرة بعد (حتى) و (لام) التعليل، وهذا ما لا تشاركها فيه بقيَّة نواصب الفعل المضارع، وهي تضمر بعدهما لأنَهما (حتى) و(اللام) ((ليسا مما يَعمل في الفعل، وأنَّ الفعل لا يُحسن بعدهما إلّا أن يُحمل على أنْ، فأنْ ههنا بمنزلة الفعل في أمَّا)).(20) وهنا يبيِّن سيبويه ما تختصُّ به (أنْ) من أنَّها هي الناصبة المُضْمَرة بعد (حتى) و(لام) التعليل لأنَّهما من حروف الجرِّ، فلا يقع بعدهما الفعل فتُضْمَر بعدهما (أنْ) لتكون هي العامل في الفعل المضارع.
     وكذلك الأمر بالنسبة لـــ(كان) بين أخواتها فهي ((مقدمة لأنها أمُّ الأفعال (الناقصة) لكثرة دورها وتشعب مواضعها.)).(21) وذلك لأنها تأتي زائدة نحو قولهم: إنَّ من أفضلهم كان زيدٌ. كما أنَّها تأتي بمعنى الشأن أو الحديث نحو:  كان زيدٌ قائمٌ، أيْ: الأمر زيدٌ قائمٌ.(22) وفي هاتين الحالتين لا تعمل (كان) عملها، وتُعدُّ هاتان الحالتان مما اختصت به(كان)، حتى أنَّها استحقت لقب الأم في بابها النحويِّ.
     ويتضح مما سبق ذكره أنَّ مصطلح الأمِّ في الباب النحويِّ يلبي حاجة تعليميَّة تتمثل في التمييز بين العوامل المُتشابهة عند انفراد بعضها بخصائص لا تتوفر في غيرها.
صياغة الحدود على أساس من العامل:
     ويُقْصَد بالحدِّ النحويِّ :((ما يميز الشيء عما عداه ولا يكون إلا مانعاً جامعاً.)).(23) وهو أمر اهتمَّ النحاة به في كتبهم، وقد تضمَّنت بعض الكتب النحويَّة تعريفات تُعرِّف الكلمة على أساس من كونها عاملاً أو معمولاً في التركيب، ويعتبرون ذلك أمراً جوهريَّاً لا يمكن التعريف بدونه.(24) وهذه طائفة من التعريفات النحويَّة التي رُوْعِي في صياغتها الجوانب الإعماليَّة، وهي:
اولاً– العامل: وهو ((الموجب لتغير في الكلمة علي طريق المعاقبة.)).(25)
ثانياً– الإعراب: وهو ((أثر ظاهر أو مقدر يجلبه العامل في آخر الكلمة.)).(26)
ثالثاً– المُعْرَب: وهو ((ما اختلف آخره باختلاف العوامل لفظا بحركة او بحرف او محلاً.)).(27)
رابعاً– المبني: وهو ((ما كان حركته وسكونه بلا عامل.)).(28)
خامساً– المبتدأ: وهو ((الاسم المجرد عن العوامل اللفظية والباء، مسنداً اليه.)).(29)
سادساً– المفعول معه: وهو ((المذكور بعد الواو غالباً لمصاحبة معمول فعل لفظاً او معنىً.)).(30)
سابعاً– الحال المؤكدة: وهي (( التي تجئ على إثر جملة عقدها من اسمين لا عمل لهما.)).(31)
     تدلُّ هذه التعريفات على اهتمام النحاة بإبراز الخصائص الإعماليَّة للكلمة المراد تعريفها، واعتبار ذلك حقيقة ذاتيَّة لها، ولا يمكن تعريفها بدونها. وبما أنَّ الحدَّ يُراد به الفصل بين أشياء أو شيئين حتى لا يختلطا، وقد يكون هذا الشيء موضوع الحدِّ مشتركا مع غيره في صفات ويتميز بصفة ما عن فيكون الحدُّ على أساس من تلك الصفة، فكذلك الأمر بالنسبة لهذه الحدود النحويَّة، والتي راعى فيها النحاة صفة غالبة عندهم وموضع اهتمامهم  ألا وهي كون الكلمة عاملة أو معمولة،  وبناءً على هذا تكون حدودهم معبِّرة عمَّا صيغت من أجله.
استخدام الشواهد النحويَّة:
     ويُقْصَد بالشاهد النحويِّ : ((الجزئي الذي يستشهد به في إثبات القاعدة لكون ذلك الجزئي من التنزيل أو من كلام العرب الموثوق بعربيتهم.)).(32) أيْ هو ما يأتي به النحوي من نص يكون شاهدا له بصحة القاعدة النحوية التي توصل اليها ، ولا يكون كذلك حتي يكون من القران الكريم أو من كلام العرب الذين ثبت فصاحتهم وصحَّ النقل عنهم،(*) ويتشابه الشاهد مع المثال النحويِّ في كونهما يأتيان لتوضيح القاعدة النحويَّة، إلا أنَّ الشاهد يشترط فيه ((أن يكون نصاً فيما يستشهد به ولا يكون محتملا لغيره بخلاف المثال فإنه يكفيه كونه محتملا لما أورد لتوضيحه.)).(33) ويتضح مما سبق أنَّ المقصود بالشاهد النحويِّ هو ما يأتي إثباتاً للقاعدة النحويَّة من نصوص القرآن الكريم، أو من كلام العرب المقطوع بفصاحتهم، والذي يشمل أيضاً حديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وهذا يعني أنَّ النحاة استنبطوا قواعدهم من نصوص عربيَّة فصيحة، أخضعوها لقوانين تثبت صحَّتها، وعلى الرغم من أنَّ بعض هذه الشواهد قد خالفت تلك القوانين إلَّا أنَّها شيء قليل  بالمقارنة مع الشواهد التي تحقَّقت فيها أعلى درجات التوثيق. كما أنَّ اهتمام النحاة بتلك الشواهد له غاية تعليميَّة تتمثَّل في كونها المثال العربيَّ الصحيح الموثوق بصحَّته، والذي يجب أن يحذو المتعلم حذوه في كيفيَّة نطق أواخر الكلمات في التراكيب النحويَّة المختلفة.
وضع أمثلة للإعمال النحويِّ:
     يُقْصَد بالمثال النحويِّ ((الجزئي الذي يذكر لإيضاح القاعدة وايصاله إلى فهم المستفيد.)).(34) وهو أمر ارتبط بالنحو العربيِّ منذ وضع لبناته الأولى على يد أبي الأسود الدؤليّ، إذ قالت ابنته: مَا أحْسَنَ السماءُ. فقال: نجومها. فردَّت بأنَّها تريد التعجب من حسنها فقال: إذن فقولي: مَا أَحْسَنَ السماءَ.(35) فقوله- إذن فقولي: مَا أَحْسَنَ السماءَ-  يُعد مثالاً نحويَّاً بيَّن به لابنته الطريقة التي يكون عليها فعل التعجُّب والمُتَعَجَّب منه، وذلك حتى لا يختلط التعجُّب عندها بصيغة الاستفهام.
     وفي فترة لاحقة اعتمد سيبويه على استخدام الأمثلة في كتابة لشرح القواعد النحويَّة، ومن ذلك قوله في باب التنازع: ((وقد يجوز: ضربت وضربتني زيداً، لأنَّ بعضهم قد يقول: متي رأيت أو قلت زيداً منطلقا، والوجه متي رأيت أوقلت زيدٌ منطلق.)).(36) في هذا النصِّ أتى سيبويه بثلاث أمثلة بغرض توضيح جواز إعمال أيٍّ من الفعلين المتنازعين، فذكر جواز إعمال الأول في المثال الأوَّل، لأنَّه سُمِع عن العرب إعماله كما في المثال الثاني، بينما إعمال الثاني أولى كما في المثال الثالث. وقد يُسْتَخْدَم المثال النحويُّ لبيان ما يصحُّ نحويَّاً ممَّا لا يكون صحيحاً من التراكيب، وذلك كما في قول سيبويه: ((أنَّك لو قلت: أخاه الذي رأيتُ زيدٌ لم يجز، وأنت تريد الذي رأيتُ أخاه زيد.)).(37) والمثال الأوَّل غير صحيح نحويَّاًّ لأنَّه فيه إعمال لفعل وقع بعد شيء لا يعمل ما بعده على ما قبله، ففيه نصيب (أخاه) بالفعل (رأيتُ) على الرغم من وقوعه بعده  اسم الموصول وهو من الأشياء التي لا يعمل ما بعدها على ما قبلها.
     كما استخدم النحاة المثال وسيلة تحليليَّة لبناء الجملة عند عدم ظهور بعض من مكوناتها في اللفظ، فيتمُّ توضيحيها بالمثال الذي يحتوي على مكوِّناتها المُفْتَرَضَة وفقاً للسياق الذي وردت فيه.(38) ومن ذلك قول سيبويه في نصب الاسم على التحذير حيث يقول: ((وذلك قولك إذا كنتَ تحذِّر: إيَّاكَ. كأنَّك قلت: إيَّاكَ نَحِّ، وإيَّاكَ  بَاعِدْ...، إلَّا أنَّ هذا لا يجوز فيه إظهارُ ما أضمرتَ، ولكن ذكرتُه لأمثِّل لك ما لا يُظهَر إضمارُه.)).(39) وفي هذا النص يستخدم سيبويه الأمثلة  النحويَّة لبيان أجزاء النظام النحويِّ الذي يرد في أسلوب التحذير، ثم نصَّ في آخِر كلامه على أنَّ كلَّ ذلك تمثيل ولا يُتَكلَّم به. ويتضح مما سبق أنَّ المثال النحويَّ قد اسْتُخْدِمَ لحاجة تعليميَّة، إذ استفاد منه النحاة في شرح القواعد النحويَّة وتوضيحها، وبيان مكوِّنات الجملة عندما لم تكن تلك المكونات ظاهرة في الكلام.
       وبالجملة  فأنَّ فكرة العامل تقوم على أسس تعليميَّة مهمَّة تتمثل في شواهد نحويَّة تُسْتَنْبَط منها القواعد، والتي تُعضِّدها أمثلة نحويَّة تُمَكِّن الدارس من فهم تلك القواعد، وذلك عن طريق ربط تغيُّر آخِر الكلمة في الجملة بالعامل، مع جمع للعوامل المشتركة العامل في أبواب نحويَّة تُسهِّل للدارس حفظ تلك القواعد وسرعة الوصول إليها.
___________________________________
(1) ابن جنِّيّ، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تـــــــــ: محمد علي النجار، دار الكتب المصرية،
( م. د)، (ط. د)، 1952م، جـ: 1، ص: 109.
(2) المبرِّد، محمد بن يزيد، المُقْتضَب، تـــ: محمد عبد الخالق عضيمة، لجنة إحياء التراث، القاهرة،(ط. د)، 1994م، جـ: 1، ص: 146.
(3) رياض بن حسن الخوام،  نظرية العامل في النحو العربي(تقعيد وتطبيق)، منشورات مجمع اللغة العربية على الشبكة العنكبوتية،(م. د)،(ط. د)،2014م ص: 83.
(4) سيبويه، عمرو بن عثمان، تـ: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط: 3، 1988م، جــ: 1، ص: 13.
(5) ابن هشام الأنصاريّ، عبد الله بن جمال الدين، شرح قطر الندى وبل الصدى، تـــــ: محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة التجاريَّة الكبرى، مصر، ط: 1، 1963 م، ص: 45.
(6) محمد أحمد عرفة، النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة، مطبعة السعادة، القاهرة، ( ط . د)،   (ت. د)، ص: 137.
(7) إبراهيم، مصطفى، إحياء النحو، مؤسسة هنداوي للنشر، القاهرة، (ت. د)، ص: .42
(8) مهدي المخزوميُّ، في النحو العربيِّ نقد وتوجيه، دار الرائد العربي، بيروت، ط:2،1986م،   ص: 69.
(9) تمَّام حسَّان،  اللغة العربيَّة معناها ومبناها، دار الثقافة، الدار البيضاء، (ط. د)، 1994م، ص: (181 – 182).
(10) ابن مالك، محمد بن عبد الله، تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، تــ: محمد كامل بركات، دار الكتاب العربيِّ للنشر، (م. د)، (ط. د)، 1967م، ص: (235- 236).
(11) مهدي المخزوميُّ، في النحو العربيِّ نقد وتوجيه، ص: ( 237– 314).
(12) تمَّام حسَّان،  اللغة العربيَّة معناها ومبناها، ص: (200- 201).
(13) سيبويه، الكتاب، جــــ: 1، ص: 106.
(14) ابن الخشَّاب، محمد بن عبد الله، المُرْتَجَل في شرح الجُمَل، تـــ: علي حيدر، (ن. د)، دمشق، (ط. د)، 1972م، ص: 114.
(15) المرجع السابق، ص: ( 230 – 248).
(16) محمد خير الحلوانيّ، أصول النحو العربيِّ، الناشر الأطلسيُّ، ( م. د )، ط: 2، 19983م، ص: (149– 150).
(17) حمودة، سعد حسن، الأمُّ في الباب النحويِّ، المكتبة العلميَّة، المنصورة، ( ط. د) ، ( ت. د)، ص : 156.
(18) سيبويه، الكتاب، جـــ: 3، ص: 63.
(19) المرجع السابق، جـــ: 3، ص: 63.
(20) المرجع نفسه، جـــ: 3، ص: 7.
(21) ابن يعيش، يعيش بن عليّ، شرح المفصَّل للزمخشريّ، تــــ: إميل بديع، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 2001م، جـــ: 4، ص: 337.
(22) الزمخشريُّ، محمود بن عمر، المُفَصًّل في علم العربيَّة، تــ: فخر صالح قدارة، دار عمار للنشر، عمَّان، ط: 1، 2004م، ص: (265– 266).
(23) الفاكهيُّ، عبد الله بن أحمد، شرح كتاب الحدود في النحو، تــ: المتولي رمضان أحمد، مكتبة وهبة، القاهرة، ط: 2، 1993م، ص: 49.
(24) مصطفى بن حمزة، نظريَّة العامل في النحو العربيِّ(دراسة تأصيليَّة وتركيبيَّة)،(م. د)، ط:1، 2004م، ص: (50- 51).
(25) الرمَّانيُّ، علي بن عيسى، الحدود في النحو، تــــــ: بتول قاسم ناصر، مجلة المورد، بغداد، عدد: 1، مجلد: 23 ، (من ص: (32 – 47))، ص: 38.
(26) ابن هشام، شرح قطر الندى، ص: 45.
(27) الزمخشريُّ، المُفَصَّل، ص: 41.
(28) المُطَرِّزيُّ، ناصر الدين بن عبد السيد، المصباح في النحو، تـــ: عبد الحميد السيد طلب، مكتبة الشباب، القاهرة، ط: 1، ( ت . د)، ص: 49.
(29) ابن إياز، الحسن بن بدر، قواعد المطارحة في النحو، تـ: يس أبو الهيجاء وآخران، دار الأمل للنشر، إربد،2011م، ص: 109.
(30) المرجع السابق، ص: 147.
(31) الزمخشريُّ، المُفَصَّل، ص: 81.
(32) التهانوي، كشَّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تـــــ: علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط: 1، 1996م، جـ: 1، ص: 1002.
(*) أخذ علماء العربيَّة اللغة عن قبائل معيَّنة وهي: قريش، وقيس، وتميم، وأسد، وهذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين. ومعيارهم في ذلك أنَّ هؤلاء  لم يخالطوا أهل الحضر ولا غيرهم من الأمم. انظر: السيوطيّ، الاقتراح في أصول النحو، ص: (47– 48).
(33) التهانوي، كشَّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، جــ: 2، ص: 1447.
(34) المرجع السابق، جـــ: 2، ص: .1447
(35) السيرافيُّ، أبو سعيد الحسن بن عبد الله، أخبار النحويين البصريين، تــــــ: طه محمد الزيني، ومحمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط : 1، 1955م، ص: 14.
(36) سيبويه، الكتاب، جـــ: 1، ص: 79.
(37) المرجع السابق، جـــ: 1، ص: 132.
(38) جواد، علاء عمار، التمثيل النحويُّ في كتاب سيبويه( بحث ماجستير)، كلية التربية، جامعة القادسية، 2007م، ص: 24.
(39) سيبويه، الكتاب، جـــــ: 1، ص: 273.












تعليقات

  1. قيل عن ابن جني أنه كان وهو صغير السن يتوسط حلقات الدرس اللغوية فلما رآه شيخه قال له؛" تزببت و لا زلت حصرم" أي صرت زبيباً وأنت لا زلت عنها لم ينضج بعد". ولم ينزعج ابن جني من كلام شيخه، بل كان له حافزاً للمزيد من الاجتهاد والتحصيل...

    ردحذف
  2. مراجعة جيدة.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3) (نظريَّة تضافر القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)