التقنيات السينمائيِّة في رواية عرس الزين


التقنيات السينمائيِّة في رواية عرس الزين

               أ. محمَّدإبراهيم محمَّدعمر همَّد محمود
     قامت صناعة السينما على الأعمال القصصيَّة والروائيَّة، فزادت من رصيدها الحضوري لدى المُتلقِّي، وكما استفادت السينما من الرواية فإنَّها بالمقابل قد أمدَّتها بمجموعة من الحيل والأدوات الفنية، استفادت منها الرواية في خطابها السردي، وأصبح كثير من الروائيين يستخدمون عن قصد أساليب الموسيقى والأفلام السينمائية بطريقة تعكس رغبتهم في التوصل إلى طرق أشمل وأكثر فنيَّة وتعبيريَّة عن القيم العامة. وقد استخدمت رواية (عرس الزين) – كغيرها من الروايات الحديثة – عدداً من الحيل الفنيَّة السينمائيَّة، والتي جاءت مبثوثة في ثنايا عرضها السرديّ، والحيل هي:
أولاً- المونتاج: وهو عملية القصِّ واللصق في الفلم السينمائيِّ وهو((من أهمَّ العناصر في انتاج الأفلام)). ونجد في رواية (عرس الزين) بعض أعمال المونتاج، والتي استخدمت بغرض الإثارة والتشويق، ومنها: تقطيع قصص: (حليمة مع آمنة)، و(الطريفي مع الناظر) ، و(حاج عبد الصمد وشيخ علي). ثم دمج قصَّة (الطريفي مع الناظر) في قصة (حاج عبد الصمد وشيخ علي) في موضع آخر من الرواية.
ثانياً- تقريب الصورة: وهي أيضاً من التقنيات السينمائيَّة المستخدمة في الرواية، ومن ذلك استخدام الراوي لها في وصف الزين في ليلة عرسه حيث يقول عنه :(( ألبسوه قفطاناً من الحرير الأبيض، ومنطقوه بحزام أخضر، وعلى ذلك كله عباءة من المخمل الازرق، وعلى رأسه عمامة كبيرة ، وفي يده سوط طويل من جلد التمساح، وفي أصبعه خاتم من الذهب، له فص من الياقوت، في هيئة رأس الثعبان.)). فهذا الوصف أشبه بصورة سينمائية مقرَّبة، يتمُّ التركيز  فيها كلَّ مرة على جزء معين منها، حيث تبدأ بالقفطان الحريريّ الأبيض، ثم الحزام الأخضر، فالعباءة المخمليَّة الزرقاء، ثم صعوداً إلى العمامة الكبيرة، ثم عودة إلى يده والسوط الطويل الذي تحمله، ثم عرض الخاتم ذي الفص الياقوتي على شكل ثعبان .
ثالثاً- عين الكاميرا: وهي ((أحدي التقنيات التي يتم بها تسجيل الأحداث والمواقف ونقلها كأننا أمام آلة تسجيل محايدة)). ويوجد هذا النوع من التقنيات مستخدماً – في الرواية – في وصف زغاريد النساء في عرس الزين، حيث سجلها الراوي كما يلي: ((ايوي ...ايوي ... ايوي... أيويا)). زغرودة أم الزين.((أيوي أيوي أيوي أيوي أيويا))زغرودة بت عبد الله. ((اجوج اجوج اجوج اجوجا)) زغرودة سلامة اللثغاء، التي تنطق (الياء)(جيماً).((ايوي يوي ايويا)) زغرودة آمنة.((اوو... اوو... اووووا)) زغرودة عشمانة الطرشاء. فكل هذه الزعاريد تمَّ تسجيلها بحياديَّة تامَّة تعكس تباين الشخصيات والألسن التي نطقت بها. حيث جاءت زغرودة أم الزين طويلة المقطع بطول الفرح الذي تحسُّ به ، وجاءت زغرودة بت عبد الله ذات مقطع أقل طولاً من الأول ، ولكنه أكثر حدة منه لعدم وجود  فواصل. وهو مقطع يتناسب مع وصفها بأنَّها ذات صوت عذب وصرخة قويَّة، أما مقطع زغرودة آمنة فقد كان هو الأقصر، وهو يعبِّر عن عدم رضاها، وتظاهرها بالرضى ولها أسبابها في ذلك. وجاء مقطع زغرودة سلامة متناسبا مع لثغتها، وكذلك مقطع عشمانة الطرشاء، والذي يعبِّر عن المعاناة التي تكبَّدتها في انتاج هذا المقطع، حرصاً منها على المشاركة في عرس الزين، وأخيراً زغرودة حليمة بائعة اللبن: ((اييييييييويا)) وهو مقطع متسارع يعبِّر عن انتهازية هذه المرأة ورغبتها في استثمار حضورها للعرس في خير تناله من أهل العرس.
رابعاً- الرمز السينمائي: وهو عبارة عن شيء ملموس يكون له معنى إضافي كامن يمكن أن ينقل مع السياق الدرامي. وقد استخدم الطيب صالح الرمز في وصفه للأرض في الرواية حيث كانت مبتلَّة بالماء، ورائحتها تملأ الأنف وهي تذكر برائحة النخل حين يتهيأ للقاح، وصلاحيتها للزراعة ولكل أنواع الحبوب من قمح وذرة ولوبيا.فهذا الوصف قد يبدو لأوَّل وهلة مجرد وقفة وصفيَّة يُرَاد بها إبطاء السرد في الرواية، ولكنَّه يحمل في طيَّاته رمزاً عن قرب الزواج في الرواية وصلاحية(العروس)لأن تكون زوجة لكل رجل يصلح للزواج . حيث يأتي بعدها في السرد  الحديث عن نعمة وتفكيرها الغريب في الزواج، حيث يصفها الراوي بأنها ((كبرت وكبر معها حباً فياضاً ستسبقه يوما علي رجل ما.)).
أمَّا عن أنواع هؤلاء الرجال الذين يصلحون للزواج فهم: رجل تزوج من قبل ويبحث عن زوجة ثانية، شاب وسيم متعلِّم، مزارع من عامَّة أهل البلد. وبالمقارنة بين المشهدين: الوقفة الوصفيَّة للأرض، وأفكار نعمة في الزواج تتضح دلالة الرمز فالأرض المبتلَّة رمز لصلاحية نعمة للزواج، والبذور رمز لصلاحية كل أنواع الرجال للزواج من نعمة على اختلافهم كما أنَّ الارض تتقبل جميع أنواع الحبوب.
خامساً- التركيب: وهو وصف يهتم بوصف حالتين مختلفتين يستخدم فيهما الأسلوب نفسه في القصة. ونجد هذا الاستخدام للتركيب في استخدام المكان وتوظيفه لعرض حادثتين لهما علاقة بعضها ببعض. فأمام دكان سعيد التاجر وقبيل صلاة العشاء حدث شجار الزين مع سيف الدين، وقد انتهى الشجار بتدخل الحنين وإنقاذ سيف الدين. وفي سياق الحادثة قال الحنين للزين: (( باكر تعرس أحسن بت في البلد دي)). وكان ذلك أمام: محجوب، وود الريس، والطاهر الرواسي، وأحمد اسماعيل، وعبد الحفيظ، وسعيد التاجر. وبعد مضي سنوات من الحادثة، وفي نفس المكان والزمان – أمام دكان سعيد  وقبيل صلاة العشاء – يعلن الزين خبر عرسه من نعمة، وذلك بحضور نفس الشخصيات التي شهدت الحادثة الأولى.
سادساً- الاستعارة السينمائية: وهي مأخوذة من الاستعارة في الأدب الرمزي، الذي يستخدم لفظين – يبدو في ظاهرهما عدم الاتساق معاً. ويقصد به في السينما:((ربط لقطتين سوياً لإخراج فكرة رمزية ثالثة )). وذلك حيث يقوم الفلم السينمائي بعرض لقطتين إحداهما من داخل المشهد، والأخرى تدمج فيه من الخارج بغرض إيصال فكرة معينة. وقد استُخْدِمَت هذه التقنية في قصة حوار الناظر مع حاج عبد الصمد وشيخ علي عن غرابة عرس الزين، وفي ذات الوقت يعرض الراوي صورة ذهنية عن قصة طلب الناظر يد نعمة واستهجان ذلك من قبل والدها، ثم عزم الناظر على والد نعمة بكتمان هذا الأمر. وقد دمج الراوي بين الحوار الذي يُبْدِي فيه الناظر استغرابه من هذا العرس، وبين هذه القصة الغريبة، بل وأكثر غرابة أن تحدث منه هو بالذات.
سابعاً-  المتكررات: ((وهي رموز غاطسة – غير مرئية – وتستخدم كوسيلة تعاد بانتظام في الفلم ومع ذلك فهي لا تشير الانتباه لذاتها.)). وهي تشبه الرمز في الإيحاء بمعنى كامن وتختلف عنه بالتكرار حيث تتكرَّر هي ولا يتكَّرر الرمز. ومن المتكررات في الرواية منظر المصلاَّة وجلوس إحدى شخصيات الرواية عليها. فمثلاً عندما أُصِيْب الزين في حادثة شجاره الأولى مع سيف الدين صرخت أمه صرخة((سمعها حاج إبراهيم أبو نعمة في رابع بيت وهو جالس على مصلاته يشرب قهوة الصباح .)). ثم يتكرر منظر المصلاَّة والرجل الصالح في حديث الراوي عن سيف الدين وفسوقه وسكره حيث أغضب والده وقد ((جاءه سيف الدين ذات ليلة ، وهو على سجادته بعد صلاة العشاء . كانت تفوح منه رائحة الخمر.)). فتكرار هذا المنظر قد يمرُّ عليه القارئ دون أن يلفت انتباهه ، ولكنَّه يشير إلى أنَّ صلاح الرجل في نفسه لا يضمن له الهدوء والاستقرار إذا لم يمتدُّ هذا الصلاح إلى المحيطين به.
     كانت تلك طائفة من التقنيات السينمائية في الرواية، وقد أسهمت –إلى جانب تقنيات سردية أخرى- في إثارة تشويق المتلقى على الرغم من عاديَّة الحدث الذي تعرضه الرواية(عرس الزين)، وسنعرض للتقنيات السرديَّة الأخرى في مقالات قادمة إن شاء الله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وظيفة الجملة في اللغة العربية

دور السياق في تحديد المعنى المراد من الجملة العربيَّة

سلسلة النظريَّات البديلة من نظريَّة العامل النحويِّ(3) (نظريَّة تضافر القرائن للدكتور تمَّام حسَّان)